جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
حجيَّة أحاديثِ الآحاد في العقائد والأحكام
حجيَّة أحاديثِ الآحاد في العقائد والأحكام
د. علاء بكر المصدر: من كتاب "ملامح رئيسية للمنهج السلفي" مقالات ذات صلة <HR> حجيَّة أحاديثِ الآحاد في العقائد والأحكام من أساليب المتكلِّمين الَّتي يُبَرِّرونَ لأَنْفُسِهم بها نَبْذَ الكتاب والسُّنة زَعْمُهُم أنَّ حديثَ الآحاد لا يُحْتَجُّ به في العقائد، فيُسقِطون السنَّة النبويَّة من حساباتهم في إثبات أمور العقيدة والتوحيد؛ إذ إنَّ أكْثَرَ السُّنَّة النبوية آحاد، والمتواتِر منها بالنسبة إلى الآحاد قليل.وحُجَّتُهم: أنَّ الأحاديثَ المُتَواتِرة تُفِيد القَطْع واليقين؛ فيُحتجُّ بها، وأحاديثَ الآحاد – على كثرتها – ظنيَّةٌ تفيد العلم الظنِّيَّ لا اليقينيَّ؛ فيُعمَل بها في الأحكام لا في العقائد؛ إذ إن الشرع نهى عنِ اتِّباع الظنِّ والأخْذِ به. وحديث الآحاد هو: كلُّ حديث لم يَبلُغْ حدَّ التَّواتُر، حتَّى وإن كان مستفيضًا، حتَّى وإن كان صحيحًا مِمَّا اتَّفق عليه البخاريُّ ومسلمٌ، وتلقَّتْهُ الأُمَّةُ عنهما بالقَبول. والمحصّلة: نَبْذ أكثر السّنَّة النبويَّة، وقَصْر الاحتجاج في أغلب مسائل العقيدة والتوحيد على القرآن وَحْدَهُ، مع تقديم أقوالِ المُتَكلِّمين وآرائهم على الآيات عند تعارِضُهما في الأذهان، مستخدمينَ التأويلَ لصرف المعاني عن ظاهرها لتُوافِق مذاهب المتكلمين. والصواب: أنَّ أحاديثَ الآحادِ الصحيحةَ حُجَّةٌ بِنَفْسِها في العقائد والأحكام، لا يُفَرَّقُ بينها وبين الأحاديث المتواترة، وعلى هذا جرى علماء الأمَّة جِيلاً بعد جِيل[1]، والتفريق بين الأحاديث المتواترة والآحاد في الاحتجاج في العقائد باطل من وجوه، منها: 1- أنَّ هذا القول قول مُبتدَع مُحْدَث، لا أصل له في الشريعة، لم يعرفه السلف الصالح - رضوان الله عليهم - ولم ينقل عن أحد منهم، ولا خطر لهم على بال[2]، وفي الحديث: ((من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))؛ متفق عليه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم ومُحْدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))؛ رواه أحمد، وأصحاب السنن، والبيهقي، والجملة الأخيرة منه عند النسائي، والبيهقي، بإسناد صحيح. وإنما قال هذه المقالة جماعة من علماء الكلام، وأخذ بها من تأثَّر بهم من علماء الأصول من المتأخرين، وتلقَّاها عنهم بعض المُعاصرين بالتسليم دون مناقشة أو برهان. وما هَكَذَا شَأْنُ العَقِيدة خاصَّةً مِمَّن يَشْتَرِطُون لِثُبوتِ مَسائِلِها بثبوتها بأدلَّة قطعيَّة عندهم. وأعجب من ذلك وأَغْرب ادّعاء اتّفاق الأُصُولِيّين على الأخْذ بذلك، وهي دعوى باطلة، وجُرْأة زائدة، فكيف يكون الاتّفاق على ذلك وقد نصَّ على أنَّ خبر الآحاد يُفيد العلم - كما يفيد العمل - الإمامُ مالك، والشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وداودُ بن علي، وابنُ حزم[3]، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وغيرهم[4]. قال ابن خويز منداد في كتاب "أصول الفقه" وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يَرْوِهِ إلاَّ الواحد والاثنان: ويقع بهذا الضرْبِ أيضًا العِلْم الضروري، نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية: "نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها"، وقال القاضي أبو يَعْلَى في أوَّل "المخبر": "خبر الواحد يُوجِب العلم إذا صحَّ سَنَدُه، ولم تختَلِفِ الرواية فيه، وتلقَّتْهُ الأُمَّة بالقَبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم، وإن لم تتلقَّهُ الأُمَّةُ بِالقبول". قال: "والمذهب على ما حكيت لا غير". وقال بذلك أبو إسحاق الشيرازي في كتبه في الأصول؛ كـ"التبصرة"، و"شرح اللمع" وغيرهما، ولفظه في "الشرح": "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل به الكل أو البعض"، ولم يحك فيه نزاعًا بين أصحاب الشافعي، وحكى هذا القول القاضي عبدالوهاب من المالكيَّة عن جماعة من الفقهاء، وذكره أبو بكر الرازي في كتابه "أصول الفقه"[5]. 2– أنَّ الشَّرْعَ دَلَّ على أخْذِ العِلْمِ من الأفراد والجماعات الناقلين له قال – تعالى -: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والإنذار إعلام بما يُفيد العلم، والتبليغ لأمور الشرع من عقيدة وغيرها بلا فرق. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وفي قراءة: {فَتَثَبَّتُوا}، ومفهوم الآية قَبول خَبَر الوَاحِد الثقة. وفي الأحاديث الحث على تبليغ ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلازم ذلك قبول خبره من الواحد، طالما أنه من طريق صحيح[6]. فإن قيل: أحاديث الآحاد تفيد الظن والشرع نهى عن اتباع الظن[7]، فجوابه: هذا في الظن المَرْجُوح الذي لا يُفيد عِلْمًا، فيكون قائمًا على الهَوَى، مُخَالِفًا للشرع، وليست أحاديث الآحاد من ذلك في شيء؛ بل هي من الشرع. ولازم ذلك رد العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام والمعاملات، إذا اعتبرناها من الظن المنهِيّ عن الأخذ به شرعًا. وهذا باطل غاية البُطلان. وعلى هذا نقول: أين الدليل الذي يُعْتَدّ به على تَرْك العمل بحديث الآحاد في العقائد والتوحيد؟! هل ثبت ذلك بآية قرآنية أو حديث نبوي صحيح؟! وهل ثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - العمل بذلك أو التصريح به؟! وهل ثبت عن أحدٍ من الصحابة ردُّ ما أخبره به أحدُهم من أحاديثَ نبوية، تضمن أمورًا عقائدية؟ وهل فعل ذلك أحد من أئمة التابعين ومن بعدهم؟ إننا نجزم - بلا شك - أنه ما من أحدٍ من الصحابة أو التابعين، أو أئمة الهدى رَدَّ خبر الواحد الذي يتضمَّن أمورًا عقائدية؛ بل كانوا يتقبلون الخبر بالقَبول واليقين، طالما ثبتَتْ صحته؛ كما في أحاديث الرؤية، وتكليم الله، وندائه، ونزوله في ثلث الليل الأخير كل ليلة... إلخ. 3 – أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((بَلِّغُوا عني))؛ متفق عليه، ومن بَلَّغ عنه فقد أقام الحجَّة على المبلغ، وحصل له بذلك العلم، وادّعاء أنَّ العلم والحجة لا تقوم بإخبار المبلِّغ، ما كان للأمر بذلك معنى. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرْسِل الوَاحِد من أصحابه؛ يبلغ عنه، فتقوم الحجة بذلك على مَنْ بَلّغه[8]. وقد أرسل - صلى الله عليه وسلم – عليًّا، ومعاذًا، وأبا موسى - رضي الله عنهم - في أوقات مختلفة إلى اليمن؛ يُبلّغُون عنه؛ ويُعلِّمُون الناس الدين، وأهمُّ شيء في الدين إنما هو العقيدة. وهذا دليلٌ قاطِع على أنَّ العقيدة تَثْبُت بخبر الواحد، وتقوم به الحجَّة على الناس، وإلا ما اكتفى - صلى الله عليه وسلم – بِمُفْرَدِه، ولأرسل معه من يَتواتر به النقل. 4 – أنَّ القول المذكور يستلزم اختلاف المسلمين فيما يجب عليهم اعتقاده، فيكون الحديث حجة في حقِّ الصحابي، باطلاً مردودًا في حق من بعده، فالصحابي الذي سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حَصَل له اليقين بما سَمِع، واعتقد ذلك عن يقين. ومن جاء بعده فلم يقبل قول هذا الصحابي؛ لكونه حديث آحاد لا يرى هذا الاعتقاد ويرده، وما ثبت تواتُرًا في زمن التابعين، ولم يثبت بعدهم متواترًا اختلف الاعتقاد بين الزمنين.. وهكذا. ومن لوازم ذلك أن حديث الصحابي كان صدقًا وحجة في حق الصحابي، ويعد باطلاً ومردودًا في أزمان بعده. ومِن لوَازِم ذلك رَدّ كلِّ ما رواه الصحابة مباشرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور الاعتقاد، إذا لم ينقل عنهم متواترًا، ويبقى إثبات ما كان فيها من اعتقادات أخَذَهَا الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - كأفراد على وصول عقول المتكلمين إلى إدراكها وإثباتها. 5 – أن القول المذكور من لوازمه أن لا يُكْتَفَى بإخبار الوَاحِد من علماء الحديث، بأن هذا الحديث مُتواتِر، إذ إنه خبره عن تواتر الحديث خبر آحاد لا يُحْتَجّ به؛ أي أنه لا يحتج إلا بما شَهِد بتواتره جميع الناس، لا واحد أو قِلة من أهل الاختصاص، ومثل هذا لا يتيسر لكل أحد أن يثبت شهادة الجميع بتواتر الحديث، إما لنقص العلم عنده، أو لعدم الاطلاع على كتب أكثر أهل الحديث. ويزيد الأمر غرابةً أنَّ هؤلاء المتكلمينَ أبعد الناس عن تعلم الحديث، ومُطَالَعة كُتُبِ علمائه، وبضاعتهم فيه مزجاة، ويفوتهم من أقوال المحدثين الكثير والكثير[9]. وأعجب من ذلك: ذمهم للتقليد في أمور العقيدة، وهم في علم الحديث لا يملكون إلا التقليد فيه. 6 – فإن قيل: حديث الآحاد يفيد الظن، ويحتمل الخطأ فيه، عمدًا أو سهوًا، أو بعدم ضبط في النقل ونحوه، وما كان هذا صفته لا تؤخذ منه عقائد. فوجب ترك العمل بحديث الآحاد لذلك. والجواب: هذا مردود من وجهينِ: الأول: إجْمَاع السلف على قَبول أحاديث الآحاد في العقائد، وإثبات صفات الرب تعالى، والأمور الغيبية العلمية بها. الثاني: هذا الادِّعاء يُوجِب أيضًا طَرح العمل بأحاديث الآحاد في الأحكام، والفرعيات لنفس العلة، وهذا باطل؛ فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا هذا، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها، جاز عليهم ذلك في نقل غيرها، وحينئذ فلا وثوق بشيء نُقِل لنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا انسلاخ من الدين. قال ابن القيم - رحمه الله -: ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها؛ كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطَّلَبِيَّة بها، فما الفرق بين باب الطَّلَب وباب الخبر، بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تَزَل تحتج بهذه الأحاديث في الخَبَرِيَّات، كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما الأحكام العملية: تتضمَّن الخبر عن الله بأنه شَرَّع كذا، وأوجبه ورضيه دينًا، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة، والتابعون، وتابعوهم، وأهل الحديث، والسنة، يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات، والقدر، والأسماء، والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جَوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟ نعم سلفهم بعض مُتأخِّري المتكلمين، الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرينِ، وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعًا عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وهذا عادة أهل الكلام، يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين؛ بل أئمة المسلمين على خلافه. اهـ[10]. 7 – أن مآل الأَخْذ بهذا القول، هو الاقْتِصار في العقيدة على ما جاء به القرآن، وترك العمل في العقائد بالأحاديث النبوية، وعدم الاعْتِداد بما جاء فيها من الأمور الغَيْبِيَّة. فإن أكثر الأحاديث النبوية آحادٌ، والمتواتر منها قليل بالنسبة إلى الآحاد، والمُتواتِر اللفظي منها أقل، والمتواتر المعنوي إنما تختلف ألفاظه وتتفاوت، والناس يختلفون في إثبات هذا المُتواتِر ويتفاوتون. ويشهد لذلك أنَّ هؤلاء المتكلمينَ لا تجدهم يثبتون أمرًا عقائديًّا مستدلينَ بثبوته متواترًا عند علماء الحديث، فَهُم أبعد الناس عن الأخْذ بذلك؛ لأنهم أجهل الناس بالأحاديث وطُرُقها، وأزْهَد الناس في الاشتغال بها وطلبها، ولذلك تراهُم يحكمون على أحاديث أنها من الآحاد، وهي عند أهل العلم بالحديث من المتواتر. وأغْرب من ذلك وأَعْجَبُ ادّعاء بعضهم أنه لا حاجة إلى السنة في أمور العقيدة، وأنه لم يثبت في أحاديث الآحاد ما تنفرد السنة به في أمور العقيدة، والأعْجَب تصديق البعض ذلك والأخذ به، يقول أحدهم: "وليس في العقائد ما انفرد الحديث بإثباته"[11]. ويقول في موضع آخر: "وقد قرر مؤلف "المقاصد": أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية"[12]. فهذا بوضوح ما انتهى به الأمر بالنسبة لهؤلاء القائلينَ بعدم الأخذ بأحاديث في العقائد أن نبذوا السنة النبوية كلها من الناحية العملية. 8 – أنَّ كثيرًا من العقائد الإسلامية التي تَلَقَّتْها الأُمَّة عن السَّلَف، وتلقت أحاديثها بالقبول، هي من الآحاد، وتَرْكُ العمل بأحاديث الآحاد تَرْكٌ لهذه العقائد الإسلامية الثابتة، وتخطئة للسلف في اعتقادها، واتخاذها دينًا، وأن يكون إسلامنا غير إسلامهم، وعقائدنا غير عقائدهم[13]. ومن أمثلة هذه العقائد السلفية: 1- أفضليَّة نبيّنا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء والرسل. 2- إثبات الشفاعة للنَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العُظْمَى في المحشر، وشفاعته لأهل الكبائر من أمته. 3- مُعْجزاته - صلى الله عليه وسلم – المادية، ما عدا القرآن الكريم. 4- ما ورد في الأحاديث عن بدء الخلق، وصفة الملائكة والجن، وصفة الجنة والنار، وأنَّهما مخلوقتان الآن. 5- القَطْع بأن العشرة المبشرين بالجنة من أهل الجنة. 6- الإيمان بالميزان ذي الكِفَّتينِ يوم القيامة. 7- الإيمان بحَوْضِه - صلى الله عليه وسلم – الكوثر، وأن من شَرِب منه لم يظمأ أبدًا. 8- الإيمان بالقلم، وأنه كتب كل شيء. 9- الإيمان بأن الله حَرَّمَ على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. 10- الإيمان بأشراط الساعة: كخروج المهدِي، وظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام... إلخ. 11- الإيمان بعروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العُلَى، ورؤيته لآيات الله – تعالى - الكُبْرَى فيها. وكما كان السَّلَف الصالح لا يُقَدّمون الاجتهادات العقليَّة على الأدلة الشرعية في مسائل العقيدة والتوحيد، فقد كانوا كذلك لا يُقَدّمون الاجتهادات الفقهيَّة على الأدلة الشرعية في مسائل الفقه وقضاياه، لذا فقد كان منهجهم في ذلك اتباع الأحكام الفقهية المبنية على الكتاب والسنة، وتَرْك ما عداها من آراء الفقهاء المخالفة للكتاب والسنة، وهم في ذلك كله يرَوْن العذر للمجتهدين المخالفينَ، لا يجعلون ردَّ أقوالِهم قَدْحًا في إمامتهم وعلْمِهم وصلاحهم[14]، ولكن لا يرَوْن عُذْرًا لمن قَلَّد الأئمة في آرائهم التي اتَّضَحَ بِجَلاءٍ مُخالَفَتُها للكتاب والسنة، ولم يكن من منهج السلف التقيُّد بإمام معين في كل فتاويه، والاجتهاد عندهم واجب على من قدر عليه واستكمل أدواته. "فالعامي له أن يُقَلِّد مَنْ غلب على ظنه أنه من أهل العلم والدين، أما العالم فعليه أن يأخذ بالأرجح"، لذا ينبغي "أن يدرس ما دَوَّنَهُ الأئمة الأربعة وغيرهم دون تعصُّب لرأي أحد منهم"[15]. والأئمة أنفسهم حثوا تلاميذهم وأتباعهم على تقديم الكتاب والسنة على اجتهاداتهم وآرائهم إذا تبينت المخالفة. فعن الشافعي قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط". وعن الإمام أحمد: "ليس لأحد مع الله ورسوله كلام". وعن الإمام مالك: "ما من أحد إلا ومأخوذ من كلامه ومردود عليه، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وعن أبي حنيفة: "لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي". فائدة: تنقسم الأحكام الشرعية إلى: 1- أحكام قطعيَّة يقينية، وهي بدورها تنقسم إلى: أ – أحكامٌ قطعيَّة لا يجهلها أحد من المسلمين: لاستفاضة العلم بها بين العامة والخاصة، كوجوب صوم رمضان؛ ووُجُوبِ الصلوات الخمس؛ وحُرْمَة الخمر؛ وحُرْمة الزنا؛ ووجوب الغُسْلِ من الجنابة، وهذه الأحكام تسمى: المعلوم من الدين بالضرورة، فمن خالف هذا المعلوم من الدين يكفر كفر عين. ب – أحكام قطعيَّة لا يعلَمُها إلا الخاصَّة من العلماء، ويجهَلُهَا الكثير من العامة: كحرمة زواج المرأة وخالتها؛ أو المرأة وعمتها؛ وأن للجدة السُّدس في الميراث؛ وأنَّ القاتل عمدًا لا يرث؛ وهذه الأحكام مع كونِها قطعية فمن يخالفها لا يكفر؛ حتى تُقام عليه الحجة التي يكفر مخالفُها. نقل الإمام النووي في شرحِه على "صحيح مسلم" عن الإمام الخطَّابي أنه قال بعد ذكره أن مانِعِي الزَّكاة في عَهْدِ أَبِي بكر - رضِيَ الله عنه - هم أهل بغي: "فإن قيل كيف تأوَّلْتَ أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذكرت، وجعلتهم أهل بغي؟ وهل إذا أنكرَتْ طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا عن أدائِها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا، فإنَّ مَنْ أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرًا بإجماع المسلمينَ، والفَرْق بين هؤلاءِ وأولئك أنَّهم إنما عُذِروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلُها في هذا الزمان، منها: قُرْبُ العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنَّسْخ؛ ومنها أنَّ القوم كانوا جُهَّالاً بأمور الدين، وكان عهدهم بالإسلام قريبًا، فدَخَلَتْهُمُ الشبهة فعُذِرُوا. فأمَّا اليَوْمَ وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاصّ والعامّ، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئًا مما أجمعت الأمَّة عليه من أمور الدين، إذا كان علمه مُنتشرًا؛ كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ والاغتسال من الجنابة؛ وتحريم الزنا؛ ونكاح ذوات المحارِمِ، ونَحْوِها من الأحكام إلا أن يكون رجُلاً حديث عَهْد بالإسلام، ولا يَعْرِفُ حُدوده، فإنَّه إذا أنكر شيئًا منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه. أما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة؛ كتحريم زواج المرأة على عمَّتها وخالتها، وأنَّ القاتِلَ عمدًا لا يرث؛ وأنَّ لِلجَدَّةِ السُّدُس، وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر؛ بل يُعْذَر فيها لعدم استفاضة علمها في العامَّة. اهـ. كلام الخطابي رحمه الله. 2- أحكام ظنية غير قطعية: والأحكام الظنية التي تَلقَّتْها الأمة بالقبول مَنْ يخالفها يُعدّ مُبتدِعًا، يُعامَل مُعاملة المبتدعينَ في الدين. ومَنْ خالف الحديث الصحيح فهو مُخْطِئٌ يُنْكَر عليه، ولا يُعتدّ بخلافه؛ لكونه من الخلاف غير السائغ، وليس له الدليل المعتبر؛ بل هو مخالف لما صحَّ من الدليل. <HR align=right width="33%" SIZE=1> [1] راجع في ذلك للأهمية: - "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام"، و"وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين"، كلاهما للشيخ الألباني رحمه الله. - "الفتاوى" لابن تيمية: جـ 18/16، ج 20/ 257. - "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم، ج 2/ 357 – 379، ج 2/ 420 – 434. - "إحكام الأحكام" لابن حزم: ج 1 / 119 – 133. - "الرسالة" للشافعي: 401 – 403. [2] رد خبر الآحاد في العقائد مذهب المعتزلة، وتابعهم عليه الأشاعرة والماتريدية. [3] راجع "إحكام الأحكام" لابن حزم ج 1/ 119 – 138 حيث ذكر في الاحتجاج على ذلك أدلة كثيرة قوية. [4] "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للألباني": ط. دار العلم بنها: ص 23. [5] المصدر السابق: ص23 – 25. [6] والآيات والأحاديث الموجبة للأخذ بما جاء به القرآن الكريم والسنة الشريفة عامة وشاملة للمتواتر والآحاد بلا فرق، وفي العقائد والأحكام بلا فرق. وكفى بها حجة ظاهرة لا سبيل إلى دفعها إلا الهوى ومناصرة المتكلمين، وانظر في ذلك كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي. [7] قال - تعالى -: في حق المشركين {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. [8] وانظر "الرسالة" للشافعي في مبعوثيه صلى الله عليه وسلم: ص 414 – 419. [9] ويدل على شدة جهلهم بالحديث المتواتر: إنكار تواتر بعض الأحاديث المعلوم تواترها عند علماء الحديث والمشتغلين به؛ كنزول الله – تعالى - إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة؛ وكرؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة؛ ونزول المسيح - عليه السلام - في آخر الزَّمَان، وظهور الدجال... إلخ. [10] "الصواعق المرسلة" لابن القيم: ج 2 / 412 – 417. [11] "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة" للألباني: ص 35، نقلاً عن "الإسلام عقيدة وشريعة" للشيخ محمود شلتوت ص 431. [12] المصدر السابق: ص 36 نقلاً عن الشيخ شلتوت ص 61. [13] راجع في ذلك "وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة" للشيخ الألباني - رحمه الله -: ص 36 – 39. - وراجع لمزيد من التوسع في هذه القضية: - "أخبار الآحاد في الحديث النبوي" للشيخ عبدالله بن جبرين. - "أصل الاعتقاد": دكتور عمر الأشقر. - "الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد في الأحكام والعقائد" لسليم الهلالي. [14] انظر: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية. [15] المرجع السابق. http://www.alukah.net/Articles/Artic...ArticleID=2026 |
أدوات الموضوع | |
|
|