تواضعه وحلمه:
ومع عظيم علمه، وكثير ماله، وما سبق به من الفضل والخلق والمكانة، كان رحمه الله جم التواضع والأدب مع الله ومع العلم ومع الناس، فيروي الحسن بن زياد اللؤلؤي فيقول: (سمعت أبا حنيفة يقول: قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا) [تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، (6/107)].
ويروى أن رجلًا سبَّه وأغلظ له، وهو في درسه فلم يلتفت إليه أبو حنيفة رحمه الله، ولم يقطع حديثه، ونهى أصحابه عن مخاطبته، فلما فرغ وقام تبعه الرجل إلى باب داره فقام على بابه وقال للرجل: (هذه داري، إن كان بقى معك شيء فأتمه حتى لا يبقي في نفسك شيء، فاستحى الرجل وانصرف مخذولًا).
توازنه وشموله:
ومن الملاحظات الجديرة بالعناية والتسجيل في حياة الإمام أبي حنيفة، شمول حياته لمختلف الواجبات والمهام، فقد كان يقسم وقته بشكل متوازن بين حاجة العلم، حاجة الأهل وحاجة الأصدقاء والخلان، وقد جاء عنه أنه كان يجعل السبت لحوائجه، ولا يحضر في المجلس، ولا يحضر في السوق، وإنما يتفرغ لأسبابه في أمر منزله وضياعه، وكان يقعد في السوق من الضحى إلى الأولى ـ يعني الظهيرة ـ وكان يوم الجمعة له دعوة، يجمع أصحابه في بيته، ويطبخ لهم ألوان الطعام.
أصول مذهبه وفكره:
وكان يأخذ أولًا بكتاب الله، ثم بالسنة، ثم بأقضية الصحابة، ويعمل بما اتفقوا عليه، فان اختلفوا كان يقيس حكمًا على حكم بجامع العلة بين المسألتين حتى يتضح المعنى، وكان يقول: (ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال) [تاريخ الإسلام، الذهبي، (3/99)].
وقد كان أيضًا كما يقول عنه الدكتور محمد أبو زهرة: (عميق التفكير بعيد النظر عميق الغور لا يقف عند ظواهر الأمر، وإنما يقلبه على وجوهه، ويعجم أعواده، فيبحث عن علل ما اشتمل عليه من أحكام مستعينًا بإشارات الألفاظ ودلالات العبارات، وملابسات الأحوال، كما كان حاضر البديهة، سريع الخاطر، واسع الحيلة، يفحم خصمه من أيسر السبل وأقربها) [محاضرات في تاريخ المذاهب الفقهية، د.محمد أبو زهرة، ص(158)].
ومن ذلك مثلًا أنه كان بالكوفة رجل يقول عن عثمان بن عفان رضي لله عنه أنه كان يهوديًّا، ولم يستطيع العلماء إقناعه في تغيير رأيه.
فأتاه أبو حنيفة فقال : أتيتك خاطبًا.
قال: لمن؟
قال: لابنتك، رجل شريف، غني بالمال، حافظ لكتاب الله، سخي، يقوم الليل في ركوع، كثير البكاء من خوف الله.
فقال الرجل، في دون هذا مقنع يا أبا حنيفة.
قال: إلا أن فيه خصلة.
قال: وما هي؟ قال : يهودي.
قال الرجل : سبحان الله تأمرني أزوج ابنتي من يهودي؟
قال: ألا تفعل؟
قال: لا.
قال أبو حنيفة: فالنبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنته من يهودي.
فقال الرجل: أستغفر الله، إني تائب إلى الله عز وجل.
أشهر تلامذته:
وبالبرغم من أنه لم يؤلف كتبًا في الفقه، إلا أن تلاميذه كانوا يدونون آراءه وربما كان ذلك أحيانًا بإملائه، بل قد جاءت بعض الأخبار بأنه كان يراجع ما دونوا أحيانًا ليقره أو يغيره.
فقد وضع أبو حنيفة رحمه الله مذهبه شورى بينهم لم يستبد فيه بنفسه دونهم، اجتهادًا منه في الدين ومبالغة في النصيحة لله ورسوله والمؤمنين، فكان يلقي مسألة مسألة، يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم حتى يستقر أحد الأقوال فيها.
ثم يثبته أبو يوسف في الأصل حتى أثبت الأصول كلها، وكان تلاميذ أبي حنيفة الذين أخذوا عنه ونقلوا فقهه عددًا كبيرًا،كثيرون منهم أولئك الذين كانوا يرتحلون إليه فيأخذون عنه ثم يعودون إلى بلادهم بعد أن أخذوا طريقته ومنهاجه، وبعضهم قد استقر إلى جواره ولازمه.
ولاشك أن السبب في عدم ذكر محمد بن الحسن ـ وهو من أشهر أصحاب أبي حنيفة فيما بعد ـ إذ لم يذكر في هذه الفئة الممتازة أن سنه إذ ذاك لم تكن تؤهله لهذه المرتبة، فقد توفي أبو حنيفة وعمر محمد بن الحسن ثمانية عشر عامًا وإن كان الباحثون يقررون أن فقه أبي حنيفة مدين لمحمد بن الحسن بكتبه التي حفظته على مر الأزمان والدهور.
ولقد كان من أشهر تلاميذ أبي حنيفة أيضًا هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، وكان يعرف هو ومحمد بن الحسن بصاحبي أبي حنيفة.
ثناء العلماء عليه:
وعن أبي يحيى الحماني أنه كان يقول: (ما رأيت رجلًا قط خيرًا من أبي حنيفة)، وكان أبو بكر الواعظ، يقول: (أبو حنيفة أفضل أهل زمانه)، وعن سهل بن مزاحم،
أنه كان يقول: (بذلت الدنيا لأبي حنيفة فلم يردها، وضرب عليها بالسياط فلم يقبلها)، وقيل للقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود: (ترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟) قال: (ما جلس الناس إلى أحد أنفع من مجالسة أبي حنيفة).
ومن أعظم ما كان من ثناء العلماء، ثناء الإمام مالك على الإمام أبي حنيفة، فقد حدث الشافعي محمد بن إدريس، قال: قيل لمالك بن أنس: (هل رأيت أبا حنيفة؟) قال: (نعم، رأيت رجلًا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبًا، لقام بحجته).
وعن إبراهيم بن عبد الله الخلال، قال: سمعت ابن المبارك يقول: (كان أبو حنيفة آية)، فقال له قائل: (في الشر يا أبا عبد الرحمن، أو في الخير؟ فقال: اسكت يا هذا؛ فإنه يقال: غايةٌ في الشر، آية في الخير)، ثم تلا هذه الآية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيةً}.
وعن المبارك أيضاً، قال: (ما كان أوقر مجلس أبي حنيفة، كان حسن السمت، حسن الوجه، حسن الثوب، ولقد كنا يومًا في مسجد الجامع، فوقعت حية، فسقطت في حِجر أبي حنيفة، وهرب الناس غيره، ما رأيته زاد على أن نفض الحية، وجلس مكانه)، وعنه أيضًا، أنه قال: (لولا أن الله أعانني بأبي حنيفة وسُفيان، لكنت كسائر الناس) [الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التقي الغزي، (1/27)].
__________________
وقال أبو الوفا بن عقيل رحمه الله:
انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت، واختار لموضعه من الصلاة الأب، فما هذه الغفلة المستحوذة على قلوب الرافضة عن هذا الفضل والمنزلة التي لا تكاد تخفى عن البهيم فضلا عن الناطق.
و ما ضر المسك معاوية عطره
أن مات من شمه الزبال والجعل
رغم أنف من أبى
|