هذه مقدمة الإمام ابن حزم الظاهري في كتابه ( التقريب في حد المنطق
) من كتاب رسائل إحسان عباس ..
وهي بيان علم المنطق لمن جهله وبيان أنواع الناس فيه ..
***
نص الكتاب ..
***
قال الإمام الأوحد الأعلم ، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن يزيد الفارسي ..
الحمد لله رب العالمين ، بديع السماوات والأرض وما بينهما ، ذي العرش المجيد ، الفعال لما يريد ، وصلى الله على محمد عبده وخاتم أنبيائه ورسله إلى عباده من الأنفس الحية القابلة للموت ، من الإنس والجن ، بالدين الذي اختبرهم به ، ليسكن الجنة التي هي دار النعيم السرمدي من أطاعه ، ويدخل النار التي هي محل العذاب الأبدي من عصاه ، وما توفيقنا إلا بالله تعالى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل .
أما بعد : فإن الأول الواحد الحق الخالق لجميع الموجودات دونه يقول في وحيه الذي آتاه نبيه وخليله المقدس : { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } الزمر 62، وقال تعالى : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } آل عمران 191 ، مثنياً عليهم ، وقال تعالى : { الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان } الرحمن 3 ، وقال تعالى : { اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } العلق 3 .
فهذه الآيات جامعة لوجوه البيان الذي امتن به عز وجل على الناطقين من خلقه وفضلهم به على سائر الحيوان ، فضلاً منه تعالى يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
ووجدناه عز وجل قد عدد في عظيم نعمه على من ابتدأ اختراعه من النوع الإنسي تعلمه أسماء الأشياء ، فقال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } البقرة 31 ، وهو الذي بانت به الملائكة والإنس والجن من سائر النفوس الحية .
وهو البيان عن جميع الموجودات على اختلاف وجوهها ، وبيان معانيها التي من أجل اختلافها وجب أن تختلف أسماؤها ، ومعرفة وقوع المسميات تحت الأسماء ، فمن جهل مقدار هذه النعمة عند نفسه وسائر نوعه ولم يعرف موقعها لديه : لم يكن يفضل البهائم إلا في الصورة ، فلله الحمد على ما علم وآتى ، لا إله إلا هو .
ومن لم يعلم صفات الأشياء المسميات ، الموجبة لافتراق أسمائها ، ويحد كل ذلك بحدودها : فقد جهل مقدار هذه النعمة النفيسة ، ومر عليها غافلاً عن معرفتها ، معرضاً عنها ، ولم يخب خيبة يسيرة ، بل جليلة جداً .
فإن قال جاهل : فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا ؟ قيل له : إن هذا العلم مستقر في نفس كل ذي لب ، فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من الفهم إلى فوائد هذا العلم ، والجاهل منكسع كالأعمى حتى ينبه عليه ، وهكذا سائر العلوم .
فما تكلم أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم في مسائل النحو ، لكن لما فشا جهل الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة العربية : وضع العلماء كتب النحو ، فرفعوا إشكالاً عظيماً ، وكان ذلك معيناً على الفهم لكلام الله عز وجل ، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكان من جهل ذلك : ناقص الفهم عن ربه تعالى ، فكان هذا من فعل العلماء حسناً وموجباً لهم أجراً .
وكذلك القول في تواليف كتب العلماء في اللغة والفقه ، فإن السلف الصالح غنوا عن ذلك كله بما آتاهم الله به من الفضل ومشاهدة النبوة ، وكان من بعدهم فقراء إلى ذلك كله ، يرى ذلك حساً ويعلم نقص من لم يطالع هذه العلوم ، ولم يقرأ هذه الكتب ، وأنه قريب النسبة من البهائم .
وكذلك هذا العلم ، فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجاز عليه من الشغب جوازاً لا يفرق بينه وبين الحق ، ولم يعلم دينه إلا تقليداً ، والتقليد مذموم ، وبالحرى إن سلم من الحيرة - نعوذ بالله منها - .
فلهذا وما نذكره بعد هذا إن شاء الله وجب البدار إلى تأليف هذا العلم ، والتعب في شرحه وبسطه بحول الله وقوته ، فنقول وبالله نستعين ( اختصرت ما بينه هنا للدخول في الرد ) :
ونحن نقول قول من يرغب إلى خالقه الواحد الأول في تسديده وعصمته ، ولا يجعل لنفسه حولا ولا قوة إلا به ، ولا علم إلا ما علمه :
إن من البر الذي نأمل أن نغبط به عند ربنا تعالى : بيان تلك الكتب ؛ لعظيم فائدتها ، فإنا رأينا الناس فيها على ضروب أربعة : الثلاثة منها خطأ بشيع ، وجور شنيع ، والرابع حق مهجور ، وصواب مغمور ، وعلم مظلوم ، ونصر المظلوم فرض وأجر .
فأحد الضروب الأربعة : قوم حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر ، وناصرة للإلحاد ، دون أن يقفوا على معانيها ، أو يطالعوها بالقراءة .
هذا وهم يتلون قول الله عز وجل ، وهم المقصودون به إذ يقول تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } الإسراء 36 ، وقوله تعالى : { ها أنتم أولاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تاحجون فيما ليس لكم به علم } آل عمران 66 ، وقوله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } النمل 64 .
فرأينا من الأجر الجزيل العظيم في هذه الطائفة إزالة هذا الباطل من نفوسهم الجائرة الحاكمة قبل التثبت ، القابلة دون علم ، القاطعة دون برهان ، ورفع المأثم الكبير عنهم بإيقاعهم هذا الظن الفاسد على قوم برآء ، ذوي ساحة سالمة ، وبشرة نقية ، وأديم أملس مما قرفوهم به .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الواسطة بيننا وبين الواحد الأول : (( من قال لأخيه يا كافر : فقد باء بها أحدهما )) فنحن نرجو من خالقنا أن نكون ممن يضرب لنا في كشف هذه الغمة بنصيب وافر به حدا يوم فقرنا إلى الحسنات وحاجتنا إلى النجاة بأنفسنا مما يقع فيه الآثمون ، ييسرنا لسنة حسنة نشارك من تصرف بعدها ما كنا السبب في علمه إياه ، دون أجره ، دون أن ينقص من أجره شيء ، فهكذا وعدنا الخالق الأول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء ضرب .
والضرب الثاني : قوم يعدون هذه الكتب هذياناً من المنطق ، وهذراً من القول ، وبالجملة : فأكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه ، وذم ما لم يعلموه ، وهو كما قال الصادق عليه السلام : (( الناس كإبل مائة ، لا تجد فيها راحلة )) فرأينا أيضاً من وجوه البر : إفهام من جهل هذا المقدار الذي نصصنا فضله أولا ، ولعمري ! ما ذلك بقليل ، إذ العلم بهذا المعنى ننأى عن البهائم ، وفهمنا مراد الباري عز وجل في خطابه إيانا .
والضرب الثالث : قوم قرأوا هذه الكتب المذكورة بعقول مدخولة ، وأهواء مؤوفة ، وبصائر غير سليمة ، وقد اشربت قلوبهم حب الاستخفاف ، واستلانوا مركب العجز ، واستوبأوا نقل الشرع ، وقبلوا قول الجهال ، فوسموا أنفسهم بفهمها ، وهم أبعد الناس عنها ، وأنآهم عن درايتها ، وكان من ذكرنا زائداً في تلبيس هذه الكتب ، ومنفراً عنها ، فقوي رجاؤها في أننا في بيان ما نبيه منها يكون السبب في هداية من سبقت له الهداية في علم الله عز وجل ، فيفوز بالحظ الأعلى ، ويحوز القسم الأسنى إن شاء الله عز وجل ، ولم نجد أحداً قبلنا انتدب لهذا ، فرجونا ثواب الله عز وجل في ذلك .
والضرب الرابع : قوم نظروا بأذهان صافية ، وأفكار نقية من الميل ، وعقول سليمة ، فاستناروا بها ، ووقفوا على أغراضها ، فاهتدوا بمنارها ، وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها ، وشاهدوا انقسام المخلوقات ، وتأثير الخالق فيها ، وتدبيره إياها ، ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالفريق الصالح ، والخدين الناصح ، والصديق المخلص ، الذي لا يسلم عند شدة ، ولا يفقتده صاحبه في ضيق إلا وحده معه .
فلم يسلكوا شعباً من شعاب العلوم إلا وجدوا منفعة الكتب أمامهم ومعهم ، ولا طلعوا ثنية من ثنايا المعارف إلا أحسوا بفائدتها غير مفارقة لهم ، بل ألفوها لهم كل مستغلق ، وتليح لهم كل غامض في جميع العلوم ، فكانت لهم للصيرفي ، والأشياء التي فيها الخواص لتجلية مخصوصاتها .
فلما نظرنا في ذلك وجدنا بعض الآفات الداعية إلى البلايا التي ذكرنا ، في تعقيد الترجمة فيها ، وإيرادها بألفاظ غير عامية ، ولا فاشية الاستعمال ، وليس كل فهم تصلح له كل عبارة ، فتقربنا إلى الله عز وجل بأن نورد معاني هذه بألفاظ سهلة سبطة ، يستوي إن شاء الله في فهمها العامي والخاصي ، والعالم والجاهل ، حسب إدراكها وما منحنا خالقنا تبارك وتعالى من القوة والتصرف .
وكان السبب الذي حدا من سلف من المترجمين إلى إغماض الألفاظ وتوعيرها وتخشين المسلك ونحوها : الشح منهم بالعلم والضن به .
ولقد يقع لنا أن طلاب العلم يومئد والراغبين فيه كانوا كثيراً ذوي حرص قوي ، فأما الآن وقد زهد الناس فيه ، وإلى إيذاء أهله وذعرهم ، ومطالبتهم ، والنيل منهم ، ولم يقنع بأن يترك وجهله ، بل صار داعية إليه وناهيا عن العلم بفعله وقوله ، وصاروا كما قال حبيب بن أوس الطائي في وصفهم :
غدوا وكأن الجهل يجمعهم به
أب وذوو الأدب فيهم نوافل
فإن الحظ لمن آثر العلم فضله ، أن يسهله جهده ، ويقربه بقدر طاقته ، ويخففه ما أمكن ، بل لو أمكن أن يهتف به على قوارع طرق المارة ، ويدعو إليه في شوارع السابلة ، وينادي عليه في مجامع السيارة ، بل لو تيسر له أن يهب المال لطلابه ، ويجري الأجور لمقتنيه ، ويعظم الأجعال عليه للباحثين عنه ، ويسني مراتب أهله ، صابراً في ذلك على المشقة والأذى ، لكان ذلك حظاً جزيلاً ، وعملاً جيداً ، وسعياً مشكوراً كريماً ، وإحياء للعلم ، وإلا فقد درس وبلى وخفي ، إلا تحلة القسم ، ولم يبق منه إلا آثار لطيفة ، وأعلام دائرة ، والله المستعان .
ورأينا هذه الكتب كالدواء القوي ، إن تناوله ذو الصحة المستحكمة ، والطبيعة السائلة ، والتركيب الوثيق ، والمزاج الجيد :انتفع به وصفى بنيته ، وأذهب أخلاطه ، وقوى حواسه ، وعدل كيفياته ، وإن تناوله العليل المضطرب المزاج ، الواهي التركيب : أتى عليه ، وزاده بلاء ، وربما أهلكه وقتله ، وكذلك هذه الكتب إذا تناولها ذو العقل الذكي ، والفهم القوي : لم يعدم أين تقلب ، وكيف تصرف منها نفعاً جليلاً وهدياً منيراً ، وبياناً لائحاً ، وتنجحا في كل علم تناوله ، وخيراً في حينه ودنياه ، وإن أخذها ذو العقل السخيف : أبطلته ، وذو الفهل الكليل : بلدته وحيرته ، فليتناول كل امرئ حسب طاقته ، وما توفيقنا إلا بالله عز وجل ، ولا ينذعر قارئ كتابنا هذا من هذا الفعل ، فيكع راجعاً ، ويحفل هارباً ، ويرجع من هذه الثنية ثنايا من عنانه ، فإنا نقول قولا ينصره البرهان ، ونقضي قضية يعضدها العيان : إن أقواماً ضعفت عقولهم عن فهم القرآن فتناولوه بأهواء حائرة ، وأفكار مشغولة ، وأفهام مشوبة ، فما لبثوا أن عاجوا عن الطريقة ، وحادوا عن الحقيقة ، فمن مستحل دم الأمة ، ومن نازع إلى بعض فجاج الكفر ، ومن قائل على الله عز وجل ما لم يقل .
وقد ذكر الله عز وجل وحيه وكلامه فقال : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين } البقرة 26 ، وهكذا كل من تناول شيئاً على غير وجهه ، أو هو غير مطيق له ، وبالله نستعين .
وليعلم من قرأ كتابنا هذا : أن منفعة هذا الكتاب ليست في علم واحد فقط ، بل كل علم ، فمنفعتها في كتاب الله عز وجل ، وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم ، وفي الفيتا في الحلال والحرام ، والواجب والمباح ، ومن أعظم منفعة .
وجملة ذلك في فهم الأشياء التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها وما تحتوي عليها من المعاني التي تقع عليها الأحكام ، وما يخرج عنها من المسميات ، وانتسابها تحت الأحكام على حسب ذلك ، والألفاظ التي تختلف عبارتها وتختلف معانيها .
وليعلم العالمون : أن من لم يفهم هذا القدر : فقد بعد عن الفهم عن ربه تعالى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يجز له أن يفتي بين اثنين ؛ لجهله بحدود الكلام وبناء بعضه على بعض ، وتقديم المقدمات ، وانتاجها النتائج التي يقوم بها البرهان وتصدق أبداً ، أو يمييزها من المقدمات التي تصدق مرة وتكذب أخرى ، ولا ينبغي بها .
انتهت المقدمة ..
نسخه ابن تميم الظاهري ..