الموضوع
:
وقفات مع آيات الحج/أنور الداود النبراوي
عرض مشاركة واحدة
#
2
2012-09-06, 11:38 PM
Nabil
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 1,858
وقفات مع آيات الحج(2)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج
أنور الداود النبراوي
القسم الثاني
يقول تعالى: {
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
} [الحج: 26].
أصل التبوُّء من المباءة: وهي منزل القوم في كلِّ موضع، فإنَّ المرءَ يذهب لعمله ومصالحه، ثم يبوء إلى منزله ويعود إليه، والتبوِئَة: الإسكان، تقول العربُ: بوَّأت له منزلاً، بمعنى: هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه؛ كقوله - تعالى -: {
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
} [النحل: 41]، وقوله: {
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا
} [العنكبوت: 58]، ومنه قول القائل:
كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا فالله - جل وعلا - أرشد الخليلَ - عليه السَّلام - إلى مكانِ البيت، وأَذِنَ له في بنائه، وجعل قسمًا من ذريته من سكانه؛ كما في قوله - تعالى -:
{
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
} [يوسف: 56].
{
مَكَانَ الْبَيْتِ
}، والمكان: يطلق على الساحة من الأرض، والمكان غير المكين، المكان: هو البقعة التي يقع فيه، ويَحِلُّ به المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى مكينًا في هذا المكان.
وعلى هذا؛ فقد دَلَّ اللهُ إبراهيم - عليه السَّلام - على المكان، الذي سيأمره بإقامة البيت عليه.
وبعض أهل العلم يذهب إلى أنَّ إبراهيم - عليه السَّلام - هو أول مَنْ بنى البيت.
وهناك من قال: بوَّأ لإبراهيم مكان البيت؛ يعني: بيَّنه له، وأنه كان مَبنِيًّا، وأنَّ قوله: {
مَكَانَ الْبَيْتِ
} يدُلُّ على أن له مكانًا سابقًا، كان معروفًا، لكنه اندرس زمن طوفان نوح؛ قال تعالى: {
إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
} [إبراهيم: 37].
ومعلوم أنَّ إسماعيلَ قد شارك أباه وساعده في البناء لَمَّا شَبَّ، وأصبح لديه القُدرة على معاونة أبيه، أمَّا الإسكان، فكان وإسماعيل ما يزال رضيعًا، وقوله - تعالى -: {
عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ
} [إبراهيم: 37] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيلُ أنْ يساعد أباه في بناية البيت، إذًا هذا دليل على أنَّ البيت كان موجودًا قبل إبراهيم.
كذلك قوله - تعالى -: {
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
} [آل عمران: 96].
فالبيت وُضِع للناس، وآدم من الناس، ثم ذُرِّيته إلى أن تقومَ الساعة، فلا بُدَّ أن يكون وُضِع لآدم أيضًا، فيقال بأنَّ البيت وُضِع حتى قبل آدم، وأن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً، ثم طمسَ الطوفانُ معالِمَ البيت، فدلَّ الله إبراهيمَ بوحي منه على مكان البيت، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي؛ قال تعالى:
{
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
} [البقرة: 127]، قيل: أرسل الله له سحابة، فاستَقَرَّت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفر الخليلُ وابنه عن الأساس، فظهر لهما فبنياه عليه، وقيل: جاءت ريح كنست ما فوق الأساس، حتى ظهر الأساس الأول.
والمعنى: أي: واذكر - أيها النبي - ذلك الوقت العظيم؛ إذ بَيَّنا لإبراهيم الخليل - عليه السَّلام - مكانَ البيت، وهيَّأناه له، وقد كان غير معروف؛ ليكونَ ذلك البيت مأوى لإقامة شعائر الدين، ورحابًا للطائفين به، والقائمين المصلين عنده، وأمرناه ببنائه على تقوى من الله وتوحيده، وتطهيره من الكفر والبدع والنجاسات، فكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله، فعلم أنَّ البيت جعل مَعْلَمًا للتوحيد؛ لذلك قال - جل وعلا -:
{
أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا
} [الحج: 26]؛ أي: لا تشرك بي شيئًا من الشرك، لا قليلاً، ولا كثيرًا.
وقال: {
شَيْئًا
}؛ ليشملَ النهيُ كُلَّ ألوان الشرك - أيًّا كانت صورته - شجرًا، أو حجرًا، أو وثنًا، أو نجومًا، أو كواكبَ.
والمراد: طَهِّر هذا المكانَ من كل ما يُشعِر بالشِّرك، فهذه هي البداية الصَّحيحة لإقامة بيت الله.
وكانت قبيلة جرهم تضعُ عند البيت الأصنام تعبدها من دون الله، وكذلك كانت الأصنام عند الكعبة حتى عام الفتح، فطهَّرها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أنجاس الأوثان وأقذارها بأمر الله؛ حيث قال: {
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
} [النحل: 123].
{
وطهر بيتي
} التطهير: هو التنزيه والنَّقاء عن كل خبيث.
معنويًّا: من الشرك والفواحش والمعاصي، أو ظلم الناس وبثِّ الخصال الذميمة.
وحسِّيًّا: من الأقذار والأنجاس والأدناس، والأصوات اللاغية والمرتفعة، التي تشوش المتعبدين بالصلاة والطواف ونحوها، وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة {
وطهر بيتي
} فيه تكريم وتشريف للبيت، فهو بيتُ الله وحْدَه دون سواه.
لذا؛ أضافه الرَّحمن إلى نفسه؛ لشَرَفِه، وفضله، ولتعظم مَحبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كلِّ جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه؛ لكونه بيتَ الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين على عبادة ربِّهم من ذكر ودعاء، وقراءة وتعليم، وغير ذلك من أنواع القرب.
{
لِلطَّائِفِينَ
}، وقدَّم الطواف على الاعتكاف والصَّلاة؛ لاختصاصِه بهذا البيت، والطَّواف عبادة قديمة، وهو أخصُّ العبادات عند البيت، فإنَّه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، وهو المشي حول الكعبة، وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة.
ولذا؛ يبدأ الحاج أعمالَه بالطواف، سواء طواف القدوم - والذي هو سنة في حق المفرد والقارن - أو طواف العُمرة للمتمتع.
"
والْقَائِمِينَ
"؛ أي: المقيمين المعتكفين فيه للعبادة؛ كما في قوله: {
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
} [البقرة: 125].
وقيل: القائمون في الصلاة؛ ولهذا قال: {
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
}، فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مُختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصَّلاة إليه، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي نافلة السفر.
وقيل: هم الدَّاعون تُجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء، فكان الملتزم موضعًا للدعاء.
قال زيد بن عَمرو بن نُفيل:
عُذْتُ بِمَنْ عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ * مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمُ
{
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
}؛ أي: المصلين، فالركَّع: جمع راكع، والسجود: جمع سَاجد، مثل: الرقود، والقعود.
وعبَّر عن الصَّلاة بالرُّكوع والسجود؛ لأنَّهما أظهرُ أعمال الصلاة التي هي عمود الدين، وأعظم العبادات بعد التوحيد؛ لذا خَصَّها الخليل بالذكر حين أسكنَ ذُرِّيته عند البيت، ودعا ربه، فقال: {
رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ
} [إبراهيم: 37].
والمراد: طهِّره لهؤلاء الفُضلاء، الذين يعبدون الله وَحْده لا شريك له، وهمهم طاعة مولاهم وخدمته، والتقرُّب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق، ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم؛
{
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ
} [البقرة: 222]،
كما أنَّ (
الطهور شطر الإيمان
)؛ رواه مسلم،
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (
من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تَخرج من تحت أظفاره
)؛ صححه الألباني.
وفي الآية: تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به في البقعة التي أسِّسَتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحْده لا شريك له؛ كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وُضعَ أول؟
قال: (
المسجد الحرام
)،
قلت: ثم أي؟
قال: (
بيت المقدس
)،
قلت: كم بينهما؟
قال: (
أربعون سنة
)، وقد سبق قول الله - تعالى -: { إِ
نَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ
(96)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم
...(97)} (آل عمران).
{
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
} [الحج: 27].
{
وأذِّن
} عطف على {
وطهر بيتي
}، وفيه إشارة إلى أنَّ من إكرام الزَّائر تنظيفَ المنزل، وأنَّ ذلك يكون قبل نزول الزَّائر بالمكان، ومنه قوله - تعالى -: {
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
} [التوبة: 3].
والتأذين: رفع الصوت للإعلام بشيء، وأوَّل وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأَذان الذي هو الإعلام بدخول الوقت؛ إعلانًا وتأكيدًا للشروع في عبادة الله وطاعته والاتصال بالمعبود - تبارك وتعالى - من خلال شعيرة الصلاة، ومنه قوله - تعالى -: {
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
} [إبراهيم: 7]؛ أي: أَعْلَمَ.
وأذَّن بما فيه من مضاعفة الحروف مُشْعِر بتكرير الفعل؛ أي: أكثر الإخبار بالشيء، والكثرة تحصل بالتَّكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار.
{
فِي النَّاسِ
}: والناس يعمُّ كل البشر؛ أي: كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك.
{
بِالْحَجِّ
}، والعرب تقول: حج بنو فلان فلانًا: إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردُّد عليه.
والمراد بالحجِّ: القصد إلى بيت الله، وكثرة الاختلاف إليه، والتردُّد عليه، وصار لفظ الحجِّ علمًا بالغلبة على الحضور إلى المسجد الحرام لأداء المناسك.
ومن حكمة مشروعِيَّته:
تلقِّي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك؛ حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس؛ لأنَّ للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس، فهذه أصل في سنَّة المؤثرات لأهل المقصد النافع.
"
يأتوك
" بضمير خطاب إبراهيم؛ دلالة على أنه كان يَحضر موسم الحجِّ في كل عام؛ ليبلِّغ الناس التوحيد وقواعد الحنيفية.
كما أنَّ جملة "
يأتوك
" جواب للأمر، فدَلَّ على أنَّ الله ضمن له استجابة ندائه.
روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك، اعتلى جبلَ أبي قيس، وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى: "إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ فْحُجُّوا"، وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين.
{
رجالاً
}: جمع راجل، وهو ضد الراكب.
{
وعلى كل ضامر
}: الضامر: الخفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من الهُزال، والضمور من محاسن الرواحل؛ لأنه يعينها على السير والحركة، و"
كل
" مستعملة في الكثرة؛ أي: وعلى رواحل كثيرة؛ كقوله - تعالى -: {
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
} [النمل: 23]، والمقصود: استيعاب أحوال الآتين؛ تحقيقًا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه؛ أي: يأتيك من لهم رواحل ومن يَمشون على أرجلهم.
ومن العلماء من ذهب إلى أن الحج ماشيًا - لمن قدر عليه - أفضلُ من الحج راكبًا؛ لأنه قدَّمهم في الذِّكر، فدلَّ على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبًا أفضل؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه حج راكبًا، مع كمال قوَّته - عليه السلام.
ولكنْ في تقديم المشاة "
رجالاً
" نوعٌ من المواساة، وجبر الخاطر، ومراعاة للنفوس، سواء كان الماشي فقيرًا، أم قادرًا؛ لكنه آثر التعبَ والمشقَّة والنَّصَب.
ثم قال: {
يَأْتِينَ
}، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس، فلم يقل: يأتون؛ لأنَّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعدٍ لمن لا يستطيع السفر على رِجْليه، وفيه تشريف لها بأنْ جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت.
أو أن المعنى: يأتوك جماعاتٍ، فجرى عليهم الفعل بضمير التأنيث؛ ليتضمن زيادة التعجب من تيسير الحج حتى على المشاة، وقد تشاهد في طريق الحج جماعاتٍ بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم، وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم.
{
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
}، والفجُّ: الشقُّ بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفجُّ على الطريق؛ لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال؛ كما قال: {
وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً
} [الأنبياء: 31]، والعميق: البعيد إلى أسفل؛ لأن العمق البعد في القعر، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار؛ {
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
} [إبراهيم: 37]، والمراد: وأعلِمْ - يا إبراهيم - الناسَ بوجوب الحج عليهم، وادْعُهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، وبلِّغ دانيَهم وقاصيَهم فرضَه وفضيلته، فإنك إذا دعوتَهم يأتونك على مختلف أحوالهم، حجَّاجًا وعمَّارًا، مشاةً على أرجلهم من الشوق، وركبانًا على كل ضامر من الإبل، تقطع المفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن.
جاء في الخبر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناسَ وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتَّخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إن الجبال تواضعتْ حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حَجَرٍ ومَدَر وشجر، ومَن كَتَبَ الله أنه يحج إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك"؛ أي: إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، مجيبين لذلك النداء الذي هو نداء الله الذي أمر إبراهيم أن ينادي به.
وقد حصل ما وَعَدَ اللهُ به، أتاه الناس رجالاً وركبانًا من مشارق الأرض ومغاربها، مقبِلين قد رفعوا أصواتَهم بالتلبية، وجرَّدوا أبدانَهم من لباسهم المعتاد، وارتدَوْا أردية خاصة تشبه أكفان الموتى، واستعدُّوا للأعمال الصالحة، مجيبين لتلك الدعوة، وجاؤوا لعبادة الله - سبحانه وتعالى - فهذه هي الحكمة في جعل هذه المواقيت، ولما كانت مكة في وسط القرى؛ سمَّاها الله - تعالى - أمَّ القرى؛
قال - تعالى -: {
وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا
} [الأنعام: 92]، وكان الناس يأتونها من كلِّ الجهات الأربع، من الغرب والشرق، ومن الشمال والجنوب، فجعل لهم مكانًا يستعدون فيه، فالبيتُ بيت الله، والخَلْقُ جميعًا خَلْقُ الله.
وفي الآية درس بليغ وعظيم للدعاة المصلحين:
فحينما أمَرَ الله إبراهيمَ بالأذان، لم يكُن حول البيت غيرُ إبراهيم وولده وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراءَ واسعةٍ شاسعة ووادٍ غيرِ مسكون؟ فناداه ربُّه: "يا إبراهيم، عليك الأذان، وعلينا البلاغ".
فمهمة الداعية هي تبليغ الحق والدعوة إلى الهدى؛ قال الله – تعالى -: {
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
} [النور: 54].
وعلى الله إيصال الخير إلى كل الناس، في كل زمان، وفي كل مكان؛ {
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
} [الأنفال: 17].
جاء في الأثر:
فَمنْ أجاب ولَبَّى: (لبيك اللهم لبيك)، كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كُتِبتْ له حجَّتان، وهكذا.
وعند التأمل في أركان الإسلام: الشهادتان (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج - سيجد العبد أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعًا له، فتراه يوفِّر ويقتصد حتى من قُوتِه، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلَّفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟
قالوا: لأن الله - تعالى - أَمَرَ بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله: {
يَأْتُوكَ
}، وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، وتتحرَّق شَوْقًا إليه، وكأن شيئًا يجذبها لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عن الناس تجذبهم إلى بيت الله الحرام،
{
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ
} [إبراهيم: 37]، تهوي وتأتي دون اختيار، من الهُويِّ؛ أي: السقوط، وهو أمرٌ لا يملكه إنسان.
وما يزال وعْدُ الله يتحقَّق منذ إبراهيم - عليه السلام - إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدةٌ من الناس تهوي إلى البيت الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر الذي يجد وسيلة الركوب، والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة؛ تلبيةً لدعوة الله التي أذَّن بها إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف الأعوام.
وفي الآية دليل على وجوب الحج على هذه الأمَّة، وذلك بالشروط المعلومة، وهي: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والاستطاعة؛ كما دل عليه قوله – تعالى -: {
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
} [آل عمران: 97]، وقوله - تعالى -:
{
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
} [البقرة: 196].
وأما السُّنة، فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (
أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ، فحجُّوا
)،
فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟
فسكت، حتى قالها ثلاثًا،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (
لو قلتُ: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم
)،
ثم قال: (
ذروني ما تَرَكْتُكُم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فدَعُوه
)؛ رواه مسلم،
وحديث ابن عمر المتفق عليه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (
بني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان
)؛ رواه البخاري.
وجاء في فضل الحج قوله - تعالى -: {
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
} [البقرة: 158].
وقد وردتْ أيضا أحاديثُ كثيرةٌ في فضل الحج والترغيب فيه، فمن ذلك حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟
قال: (
إيمانٌ بالله ورسوله
)،
قيل: ثم ماذا؟
قال: (
الجهادُ في سبيل الله
)،
قيل: ثم ماذا؟
قال: (
حجٌّ مبرور
)؛ متفق عليه.
وعنه - رضي الله عنه - أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (
من حجَّ فلم يرفثْ ولم يفسق، رجع كيومَ ولدتْه أمُّه
)؛ متفق عليه.
وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (
العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة
)؛ متفق عليه.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟
قال: (
لكن أفضل من الجهاد، حج مبرور
)؛ رواه البخاري.
وعنها أيضًا - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (
ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء
؟ )؛ رواه مسلم.
(يتبع)
عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
Nabil
مشاهدة ملفه الشخصي
زيارة موقع Nabil المفضل
البحث عن المشاركات التي كتبها Nabil