عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 2012-09-09, 09:41 AM
الصورة الرمزية Nabil
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 1,858
Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil
افتراضي وقفات مع آيات الحج(5)/أنور الداود النبراوي

وقفات مع آيات الحج

أنور الداود النبراوي

القسم الخامس

يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾

الشعيرة: من الشعور، وهي المَعْلم الواضح.
وشعائر الله: بمعنى: مُشعِرة، أي: معلمة بما عينه الله، وهي لقب لأعلام الدين الظاهرة، والمعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، ومنها مناسك الحجّ كلها، كما قال تعالى:
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ (البقرة: 158).
فكل ما أمر الله بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي: مما أشعر الله الناس وقرره وشهره.
وكل ما جعل علما لطاعة الله الواحدة شعيرة، فالإحرام شعيرة، والمشعر الحرام أحد المشاعر، وكذلك الكعبة، والطواف، والصفا والمروة، وعرفة، ورمْي الجمار، والتكبير، ونحوها من معالم الحجّ التي عظّمها الله، وأمرنا بتعظيمها، ومنها الهدايا والقربان للبيت، حيث تطلق الشعيرة أيضًا على بدنة الهدي، قال تعالى:
﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ (الحج: 36)؛
لأنهم يجعلون فيها شِعارًا، والشِعار: العلامة، وإشعار الهدي طعنه في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم؛ ليعلم أنه هدي. وقد استحب الإشعار العلماء، لما فيها من تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، تذبح له ويتقرب بها إليه.
وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة: ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ على جملة: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾ للعناية بالشعائر.
﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله.
فإن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى:
﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) ﴾ (الشعراء).
والمراد: فقد حلّت التقوى في قلب من عظَّم شعائر الله، يعني: أدَّاها بحبٍّ وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل. كما أن تعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، وهو اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل، والمعظم لشعائر الله يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، والأولى بالعبادات أن تؤدى بمحبة ولذة، فذلك أدعى عند الله بالقبول، وعند العبد بالثبات والاستمرار عليها، وتحقيق ثمراتها في الدنيا والآخرة.

وهذه المحبة للتكاليف عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة ) رواه أحمد وصححه الألباني، خلافا لحال أولئك الذين يقول فيهم سبحانه:
﴿ إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا ﴾ (النساء: 142).

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، فقد جاء في الحديث، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين (رواه البخاري).
ويشترط في الهدي الشروط الآتية:

الأول: أن يكون من بهيمة الأنعام، فلو أهدي فرسًا لم يجزئه.
الثاني: أن يبلغ السن المعتبر شرعا، وهو أن يكون ثنيًا، أو جذعًا، فالجذع من الضأن، والثني مما سواه؛ من المعز، والبقر، والإبل.
الثالث: أن يكون الهدي سليما من العيوب المانعة من الإجزاء، عن علي رضي الله عنه، قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أحمد وصححه الألباني.
وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عَوَرها، والمريضة البين مَرَضها، والعرجاء البين ظَلَعها، والكسيرة التي لا تُنقِي ) رواه أحمد، وصححه الألباني.
الرابع: أن يكون في زمن الذبح؛ وهو الوقت الذي تذبح فيه الأضاحي، وهو يوم العيد، وثلاثة أيام بعد العيد.
الخامس: أن يكون في مكان الذبح فلا يصح إلا في الحرم.
السادس: ألا يسافر بين العمرة والحج، فإن سافر إلى أهله ثم عاد فأحرم بالحج، فإنه يسقط عنه الهدي، وإن سافر إلى غير أهله لا يسقط.

وقد كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعتنون بالهدي عناية كبيرة؛ فيختارونه سمينًا غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله.
وكل ذلك لأجل تحقيق التقوى، والتي هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، قال تعالى:
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ (البقرة: 197).
كما أن تقديم الهدي -من النحر والذبح- يدل على التقوى والاستسلام لله وحده، قال جل وعلا:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، ويعبر عن التوجه إلى رب البيت وطاعته وشكره، قال جل وعزَّ:
﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)﴾ (الكوثر).

وهذه الذبائح يذكر القرآن الكريم أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم، تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة.
والإسلام - منذ نشأة هذه الأمة المسلمة - إنما يوجهها وجهتها الصحيحة، وهي التوجه إلى الله وحده دون سواه.. فهي والدعاء والصلاة سواء.
﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) ﴾
قوله تعالى: ﴿ لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ والمنافع: من النفع، وهو حصول ما يلائم.
والنفع أيضا: ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات، وما يتوصل به إلى الخير خير وضده الضر.
فهذه الأنعام التي تتخذ هديًا ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الانتفاع بها، إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها، أو صوفها أو أوبارها أو أشعارها.

وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعًا لا يتلفها ولا يضرها، وإن كانت هديا، إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً، قال:
( اركبها
قال: إنها بَدنَة،
قال: ( اركبها، ويحك )، في الثانية أو الثالثة.

ولا يخفى ما في هذه الأنعام من منافع حيث ينتفع المرء بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ويتخذها زينة وركوبا.
وفي رواية لمسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها ).
وفي الآية رد على المشركين؛ لأنهم كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه منعوا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك.
كل هذا ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ (الحج: 33) أي: إلى وقت مقدر ومؤقت، وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا، وما دامت هذه المنافع إلى أجل مسمى، فلا بُدَّ أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة.
﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ والمَحِلّ: من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. أي: مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق، قال تعالى: ﴿ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ (الفتح: 25).

وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، ولكن الهدي لا بد أن يذبح في الحرم يكون بها التقرب الله بواسطة تعظيم الكعبة، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى: ﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ (المائدة: 95) والهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ (آل عمران: 97).
والمناحر: مِنى، والمروة، وفجاج مكة، وفي الحديث الشريف: ( ومنى كلُّها مَنْحرٌ ) رواه مسلم. فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس الفقير.
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ (الحج: 34)

المنسك: هو العبادة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الأنعام: 162).
والمعنى: لكل أمة من الأمم، ولكل جماعة مؤمنة سلفت، جعلنا لها مناسك مِنَ الذبح وإراقة الدماء، وما يناسبها من طاعات وعبادات، ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي، وما يصلح المجتمع، وذلك في الفرعيات.
أما في الأصول العَقَدية الثابتة، فكما ذكر الله تعالى بقوله: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ (الشورى: 13).
والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا: إقامة ذكره، والالتفات لشكره. والمراد: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا، ولهذا قال تعالى: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾.
﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُم ﴾ يعني: أنه تعالى أوجدها لك، وملكك إياها، وذَلَّلها لك فاستأنسْتها، وسخّرها لك فانتفعتَ بها، ولولا تسخيره ما انقادتْ لك بقُوتك وقدرتك.

وفي الآية دلالة عظيمة على فضل وأهمية ذكر الله وشكره في كل شيء، وعلى كل نعمة ينالها العبد، ومنها بهيمة الأنعام، فيقول عند الذبح: بسم الله، والله أكبر؛ لأن الذبح إزهاق روح خلقها الله، وما كان للمرء أن يزهقها بإرادته وحوله وقوته، بل بأمر الله وقدرته ومشيئته وإرادته، فما ذبحها العبد إلا لأن الله أحلَّها، وما أكلها إلا بسم الله، وهو سبحانه من أمر المسلم وأباح وأقْدَر، فباسم الله نذبح، والله أكبر.
ثم إنه وإن اختلفت أجناس الشرائع من أمة لأمة، وتَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وكلها متفقة على هذا الأصل العظيم، وهو التوحيد.
﴿ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ إنما هو إله واحد يشرِّع لكل أمة ما يناسبها وما يصلحها، وهو معبودكم الواحد الأحد، قال جل وعلا:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ (الأنبياء: 25).
المشرِّع للجميع إله واحد، الناس جميعًا من لَدُن آدم وإلى أنْ تقومَ الساعة عياله، وهم عنده سواء، لذلك يختار لكلٍّ ما يُصلحه، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة.

وما دام أن إلهكم إله واحد، وما دُمْتم عنده سواء، وليس منكم مَنْ هو ابنٌ لله، ولا بينه وبين الله قرابة؛ ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فأَسلِموا كل أموركم لله، وأخلصوا، واستسلموا لحُكْمه وطاعته. وهذا هو وحده طريق الوصول إلى دار السلام.
فإنْ أَمَرَ فعظِّم أمره، وخذه على الرَّحْب والسَّعَة، فإنْ ترك مجالًا لاختيارك فاصنع ما تشاء.
ولا تنسَ أن الله تعالى أعطاك فرصة للترقِّي الإيماني، وللترقِّي الإحساني، وفتح لك مجال الإحسان إنْ أردتَ.
وتقديم المجرور في قوله: ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ للحصر، أي: أسلموا له لا لغيره، واتركوا جميع المناسك التي أُقيمت لغيرِه، فلا تنسكوا إلاّ في المنسك الذي جعله لكم. وفيه تعريض بالرد على المشركين.
﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
أصل المخبت هو مَن سلك الخَبْت، وهو المكان المنخفض، فكأن المؤمن سلك نفسه في الانخفاض؛ لأنّ التواضع من شيم المؤمنين، كما أن التكبّر من سمات المشركين، قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ (غافر: 35).
المُخْبِت: المتواضع لعباد الله الذي لا تكبُّر عنده، الخاشع الخاضع المستسلم لكل أوامر الله، والراضي بقضاء الله والذي إذا ظُلم لا ينتصر لنفسه، عملًا بقول الله تعالى: ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ (الشورى: 43).

ولا تكتفي بالعفو، بل وتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْه والحِقْد من نفسه، كما قال سبحانه وتعالى:
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ (فصلت: 34)، فتكون قد أخرجتَ خَصْمك من قالب الخصومة، إلى قالب الولاية والمحبة، قال تبارك وتعالى:
﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 134)، وهي أعلى المراتب.
فالإخبات على نوعين:

إخبات لله بالخضوع والخشوع والتعظيم لأوامره، وإخبات لخَلْق الله، بحيث لا ينتصر لظلمه ولا يظلم، إنما يتسامح ويعفو.
وأحسن ما يفسّر به { الْمُخْبِتِينَ } ما ذكر بعده من صفات أربع هي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق.

وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع، ولأهلها البشرى بخيرَي الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (64)﴾ (يونس).
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ الوَجل: هو الخوف الشديد، كما في قوله تعالى:
﴿ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ (الحجر: 52).
فهؤلاء المتواضعون الخاشعون مِن صفاتهم أنهم إذا ذُكِر الله وحده خافوا عقابه, وحَذِروا مخالفته، فاضطربت قلوبهم، وارتعدت لذكر الله تعظيمًا له، ومهابة منه، فتركوا لذلك المحرمات. وذلك علامة إيمان بالله، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾ (الأنفال).

وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد: 28).
فمرة يقول: ﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾، ومرة يقول: ﴿ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾، لماذا؟
لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لا بُدَّ للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنُّ به وتأنَسُ؛ لما فيها من رصيد إيماني، ترجع إليه عند الشدة، وتركَنُ إليه عند الضيق والبلاء، فإنْ تعرض العبد لمصيبة وعزَّ عليه دَفْعها لجأ إلى ربه الرحيم، مطمئنا وواثقا بحفظ الله وتوفيقه، كما ذكر الله عن موسى عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾ (الشعراء).

﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ﴾ وإذا أصابهم بأس وشدة أو شيء من المصائب من البأساء والضراء، وأنواع الأذى في سبيل الإسلام، فلا يجري منهم التسخط أو الاعتراض على قضاء الله فيهم، بل يصبرون مؤملين الثواب، ومحتسبين من الله عز وجل، قال الحسن البصري: والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ.
﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ﴾ أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة؛ بأن أدَّوْا الصلاة تامة، وأدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة.

والصلاة هي الفرض الذي لا يسقط عن المؤمن بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أنْ تقولها في العمر مرة، والزكاة إنْ كان عندك نِصَاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إنْ كنتَ مستطيعًا فهو مرة واحدة في العمر، وإنْ لم تكُنْ مستطيعًا فليس عليك حج، أما الصلاة فهي الولاء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله، خمس مرات في اليوم والليلة، والله هو من أمر ودعا إليها، قال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) ﴾ (البقرة).

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) ﴾ ومما آتاهم الله ومن عطائه وطيب رزقه جل وعلا ينفقون في سبيل الله وعلى أهليهم ومَن وَجَبَتْ عليهم نفقته, ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله.
والإنفاق يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والعيال والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات على الفقراء والمحتاجين والضعفاء من المؤمنين؛ لأنّ ذلك هو دأب المخبتين.
وأُتي بـ(من) المفيدة للتبعيض في قوله: ﴿ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾؛ ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله.
وهو كما ذكر الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [البقرة : 219]، أي اليسير الزائد عن الحاجة.

إن الإسلام يوحد المشاعر والاتجاهات، ويتوجه بها كلها إلى الله، ومن ثم يُعنى بتوجيه الشعور والعمل، والنشاط والعبادة، والحركة والعادة؛ إلى تلك الوجهة الواحدة.
وعلى هذا الأساس حرَّم من الذبائح ما أُهلَّ لغير الله به؛ وحتَّم ذكر اسم الله عليها، حتى يجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله وحده، لأنه هو الإله المعبود دون سواه.

(يتبع)

عن موقع شبكة الألوكة الشرعية
رد مع اقتباس