عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 2013-06-24, 12:38 AM
الصورة الرمزية Nabil
Nabil Nabil غير متواجد حالياً
مشرف قسم التاريخ الإسلامى
 
تاريخ التسجيل: 2009-08-07
المشاركات: 1,858
Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil Nabil
افتراضي أهل السنة والجماعة وهوية الأمة/د. محمد عياش الكبيسي/ق2

أهل السنة والجماعة وهوية الأمة

الدكتور محمد عياش الكبيسي

القسم الثاني والأخير


ثانيا: في محور التفاعل البشري مع الوحي المنزل، حيث تشكلت الأمّة وتكونت من هذا التفاعل، فليست الأمة إلا المجموعة البشرية التي آمنت بالإسلام وتحركت به على هذه الأرض، وأهل السنّة لا يعزلون ما أنتجته (الأمة) عما ورد في أصل (الملّة)، فإذا كانت الملّة هي الدين والوحي المقدّس فإن الأمة هي التي انبثقت من هذا الدين وحملته للعالم وجاهدت في سبيله وجعلته نموذجا قابلا للتأسّي والاقتداء، والطعن في الأمة إنما هو طعن في الملة نفسها، فالذين يطعنون بحملة القرآن وكتبته وحفظته إنما يطعنون بالقرآن نفسه، ومن هنا جاء احترام أهل السنّة للأمة التي حملت القرآن وجاهدت به وخاصة الصحابة الكرام ثم التابعين وتابعي التابعين وهكذا، مع التمييز بين الوحي المقدّس المعصوم وبين الجهد البشري القابل للخطأ، حيث يكون الأول حاكما على الثاني وموجها له، وأهل السنّة كما كانوا المؤتمنين على الملة بمصادرها وأحكامها فإنهم المؤتمنون أيضا على الأمة بتراثها وتاريخها، ولنقف مع هذه النماذج:

1 ـ في التاريخ الإسلامي، ينسجم أهل السنة مع كل التاريخ الإسلامي بدءا من العصر الراشدي الذي يعطونه الأفضلية المطلقة ثم العصر الأموي والعباسي والعثماني، ودول الإسلام الكبيرة كالدولة الأيوبية ودولة الإسلام في الأندلس ودولة المرابطين والموحدين ودول المشرق الإسلامي.. إلخ، كما يعتز أهل السنّة بالفتوحات الإسلامية ويسمون أولادهم بأسماء هؤلاء الفاتحين، لكن في المقابل نرى الشيعة يتبرؤون من هذا التاريخ كله، ولا يعظمون إلا من كان سببا في خراب حضاراته وحواضره، كنصير الدين الطوسي وابن العلقمي اللذين كانا سببا في خراب بغداد وإنهاء الدولة العباسية بعد تحالفهما مع هولاكو، وهذا الفارق بين السنّة والشيعة يكفي للتمييز بين من هو مع الأمة وبين من يقف في الطرف الآخر.

2 ـ في التراث الإسلامي والمنبثق من التفاعل العلمي والمعرفي مع مصادر الوحي، يعتز السنة بكل ما أنتجته الأمة في حركتها الثقافية الطويلة، ويقدرون لكل المجتهدين اجتهادهم المصيب منهم والمخطئ، ولذلك استوعب أهل السنّة كل المدارس العلمية والثقافية والتربوية المتفاعلة مع مصادر الوحي مهما اختلفت في توجهاتها وقواعد اجتهادها، بينما نرى الشيعة لا يتورعون عن تكفير كل هذا التراث من علماء الصحابة كأبي هريرة وعائشة وابن عمر إلى المذاهب الأربعة والبخاري ومسلم وغيرهم من المحدثين والمفسرين والفقهاء، بحيث يمكن القول بشكل جازم إن هدف التشيع هو إلغاء هذا التراث بالكامل!

3 ـ في الرموز الإسلامية، حيث يتغنى أهل السنة بكل رموز الأمة ويورثون حبهم وتعظيمهم للأجيال، مع اختلاف الرموز هؤلاء في مواقفهم وتوجهاتهم، كالمعتصم وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، فهؤلاء الثلاثة ينتمون لمدارس مختلفة لكن أهل السنة يعتزون بهم جميعا، بينما لا يتورع الشيعة عن هدم كل هذه الرموز والتشكيك في مواقفهم ونواياهم.

4 ـ في التعبير الفني عن معالم الهوية، فأهل السنة يعتزون بكل ما أنتجته الأمة في هذا المجال تعبيرا عن ذاتها واعتزازا بهويتها، فشكل الكعبة وزخرفتها جهد بشري لكنه محل احترام أهل السنة، وكذلك المصحف الشريف المطبوع بهذه الخطوط والزخارف المميزة، ومساجد اسطنبول، والمدارس العلمية الأصيلة في مصر وتونس والعراق، بينما لا يهتم الشيعة إلا بالصور والشعارات والفنون التي تغذي في الشيعي روح الثأر والانتقام من الأمة، ويكفي في هذا ما تنتجه المآتم الحسينية والتعظيم المبالغ به إلى حد التأليه للقبور والمشاهد التي يعظمونها أكثر من الحرمين الشريفين.

من خلال هذين المحورين يتبين أن اختيار مصطلح (السنّة والجماعة) كان اختيارا دقيقا، فهم المؤتمنون على الإسلام (السنّة) عقيدة وشريعة وثقافة، وهم المؤتمنون على الأمة (الجماعة) تراثا وتاريخا وحضارة، فأهل السنّة ليسوا طائفة كما أنهم ليسوا مذهبا فكريا ولا فقهيا ولا حزبا سياسيا ولا مجموعة دعوية أو إصلاحية، أهل السنة هم الأمة بكل تاريخها ورموزها ومذاهبها واجتهاداتها، ويمكن وضع معيار دقيق فيمن ينطبق عليه هذا الاسم فنقول: كل من يشعر بالانتماء لهذه الأمة وهويتها الجامعة بعناصرها ومعالمها المعروفة فهو داخل في مسمى أهل السنة والجماعة، بغض النظر عن انتمائه الفرعي قوميا أو قُطريا أو مذهبيا أو حزبيا، ووفق هذا المعيار يمكن تصنيف الخارجين أيضا عن هذه الهوية على النحو الآتي:

1 ـ الخارجون عن الملة بإنكار معلوم من الدين بالضرورة كمن ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء الذين نص عليهم القرآن، أو يقول بتحريف القرآن، أو باستمرار الوحي بعد رسول الله، وما إلى ذلك، فهذا كله خروج عن الإسلام، وبالتالي فهو خروج بالضرورة عن دائرة أهل السنّة، وإن كان التكفير للشخص المعيّن حكما قضائيا يحتاج إلى شروط محددة ومعروفة عند الفقهاء، فإن تكفير الأفكار لا يحتاج إلى هذه الشروط، بل هو من صميم عقيدة المسلم، فإنه لا يعرف الإيمان من لا يعرف الكفر، فالله سبحانه وتعالى جعل الكفر بالطاغوت مقدمة للإيمان بالله فقال: { قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى...(256)}(البقرة)، وبهذا نتجاوز فوضى التكفير المعين التي تعصف ببعض الشباب والجماعات الإسلامية المتشددة وبين من يحاول تمييع الحدود الإسلامية حتى اختلط عنده الإسلام بالكفر.

2 ـ الخارجون عن الأمة بالتنكر لتراثها وتاريخها وأمجادها، كمن يتبرأ من الخلفاء الراشدين وجيل الفاتحين، أو يعتقد أن هذه الأمة قد ارتدت بعد نبيها، أو يسمي الفتوحات الإسلامية استعمارا، وهؤلاء وإن اختلف الناس في ردتهم وخروجهم عن الملة، إلا أنه لا ينبغي الخلاف في خروجهم من الأمة، وعلى هذا وجب تمييزهم عن الأمة أو تمييز الأمة عنهم، وربما نستأنس هنا بموقف القرآن من بعض المسلمين الذين تقاعسوا عن الهجرة والالتحاق بالأمة والدولة التي أنشأها الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، حيث يقول القرآن: { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُہَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰيَتِہِم مِّن شَىۡءٍ حَتَّىٰ يُہَاجِرُواْ‌ۚ ..(72)}(الأنفال)، فإذا كان هذا هو حكم الله في المؤمنين الذين تقاعسوا عن الانضمام إلى جماعة المسلمين ودولتهم في المدينة، فكيف بمن يحارب الأمة كلها ويتبرأ من كل تاريخها وثوابتها؟

إننا حينما نتكلم عن هوية الأمة وضرورة الحفاظ عليها وحمايتها وترسيخها، فإننا نتكلم عن الأمة نفسها، أما أولئك المشغوفون بوحدة الأمة على حساب هويتها فإنهم سيكتشفون أنهم يغامرون بوجود الأمة أصلا، فإن الهوية هي الآصرة التي تجمع أبناء الأمة، وهي الأساس الذي تشكلت عليه الأمة، وحينما نسمح بنقض هذا الأساس فإننا سننقض الأمة نفسها، فالإسلام هو هوية هذه الأمة، ونحن أمة إسلامية لأننا آمنا بالإسلام، فإذا سمحنا بعد هذا بنقض ثوابت الإسلام فما الذي يجمعنا بعده؟ وهذا ما حصل بالفعل حيث بدأت الأمة تبحث بعد موجات الغزو الثقافي عن قواعد أخرى للانتماء والالتقاء، فبرزت الهوية القومية ثم الوطنية ثم الحزبية ليست كتنوع طبيعي ضمن الهوية الجامعة، بل كهوية بديلة وأسس جديدة للولاء والبراء.

إن هذا الشتات الذي تعيشه الأمة هو نتيجة طبيعية لارتباك الهوية والآصرة الجامعة، وهو ما جعل الأمة تضعف أمام كل التحديات وترتبك حتى أمام الاستفزاز الطائفي الذي تقوم به طائفة معزولة ومخنوقة في ثقافتها الباطنية الحانقة والمتوترة! وما حصل في القصير هو درس لهذه الأمة المرتبكة، ولعل نهضة العلماء والمفكرين اليوم واعتراف المخطئ منهم بخطئه والتحام القادة السياسيين والسواد الأعظم في الأمة بعد كارثة القصير، تعد المقدمات الضرورية للدخول في المرحلة الجديدة التي ستؤسس لوضع آخر مختلف تماما عن حالة الضياع وفقدان البوصلة خلال القرن الماضي.

عن صحيفة العرب القطرية
رد مع اقتباس