حالُ الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم مع أهله في العشر الأواخر
من رأى حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أزواجه وأهل بيته في العشر الأواخر، يلمس بوضوحٍ مدى صدقه صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) وقوله: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، ويُدرك بوضوحٍ أنّه أتقى هذه الأمة، كيف لا وهو أسوتها وقدوتها، فهو أول المستجيبين لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} (سورة التحريم)!
ولقد برز ذلك جليّاً في سلوكه صلى الله عليه وسلم مع أفراد أسرته، عند إقبال العشر الأواخر من رمضان، واستعداداً لها، وتحريّاً لليلة العظمى المكنونةِ فيها، أي ليلة القدر:
ويبرز ذلك فيما يلي:
أولاً: اجتهاده في تفقيههنَّ رضي الله عنهنَّ بأحكام العشر الأواخر وليلة القدر:
ويدلّ على ذلك: أنّ كثيراً من الأحاديث الواردة في ذلك هي من روايتهنَّ، سواء شاركهنَّ أحد الصَّحابة رضي الله عنهم في تلقِّيها عنه صلى الله عليه وسلم أو لم يشاركهنَّ أحد، وكلّ ذلك تعليم وإرشاد، ومن ذلك:
حديث عائشة رضي الله عنها حين قالت: يا رسول الله أرأيت إن علمتُ أيَّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها؟، قال: "قولي: اللهم إنَّك عفوُّ كريم تحب العفو فاعف عني".
وحديثها رضي الله عنها : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ).
وحديثها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ).
بل إن إخبارهن رضي الله عنهنَّ بجانب من عشرتهنَّ وما علمنه من حاله صلى الله عليه وسلم كان طريقَ الأمة لمعرفة كثير من هديه صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان وذلك لا يخفى.
ثانياً: حثّه صلى الله عليه وسلم لهنَّ – رضي الله عنهنّ- على الاجتهاد في هذه الليالي العشر:
ويتّضح ذلك مما أوردناه عاليه.
فحيَّ على أسركم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة)
ثالثاً: وممّا يجعل دعوته إيّاهنّ إلى الاجتهاد في هذه العشر الأواخر مؤثّرةً:
حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لهنَّ قبل ذلك:
ومن الأمور الدالة على ذلك:
1. مواقعته صلى الله عليه وسلم لهن رضي الله عنهن في غير العشر الأواخر، يشهد لذلك حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جُنُب من غير حلم فيغتسل ويصوم".
2. وقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله"، قال ابن حجر "قولها شدَّ مئزره: أي اعتزل النساء".
وقد جاء ذلك مصرحاً به عند البيهقي من حديث علي رضي الله عنه قال :"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان العشر الأواخر من رمضان شمَّر واعتزل النساء".
ومما يدل عليه كذلك:
تقبيله صلى الله عليه وسلم لزوجاته ومباشرته لهن رضي الله عنهن وهو صائم، يدل للتقبيل حديث عائشة رضي الله عنها:
قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل في شهر الصوم".
ويدل للمباشرة حديث عائشة رضي الله عنها حين سألها الأسود ومسروق: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم ؟ قالت: نعم، ولكنه كان أملككم لإربه".
3. مراعاته صلى الله عليه وسلم لهنّ وحرصه على الاستقرار الأسري؛ إذ ترك الاعتكاف في سنة – كما تقدم- خشيةً على نسائه من أن يقع بينهنَّ أو في نفوسهنَّ شيء.
4. زيارة نسائه صلى الله عليه وسلم له في معتكفه وتبادله الحديث معهنَّ ساعة، وخوفه صلى الله عليه وسلم عليهنَّ وحمايته لهنَّ رضي الله عنهنّ، يدل لذلك حديث صفية رضي الله عنها "كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فرحن، فقال لصفية بنت حيي لا تعجلي حتى أنصرف معك، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم معها".
وفي أخرى "إن صفية رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، فلما رجعت مشى معها".
خدمة نسائه صلى الله عليه وسلم له:
أولى الناس بخاصة الرجل أهله، وإيكاله شأنه الخاص إليهن يورث قرباً ومودة، ويزيد اللُّحمة. وذلك ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره، ومن دلائل ذلك:
1. تغسيل زوجه صلى الله عليه وسلم لرأسه وترجيلها لشعره وهو معتكف – كما عرف-.
2. ضرب زوجه الخباء له صلى الله عليه وسلم في المسجد ليعتكف فيه، يدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله"
3. ضرب زوجه الحصير له صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه وطيها له، يدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "...أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من ذلك أن أنصب له حصيراً على باب حجرتي، إلى أن قال "اطو عنّا حصيرك يا عائشة...".
4. إيقاظ أهله صلى الله عليه وسلم له، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر"
5. إذنه لزوجاته رضي الله عنهن بالاعتكاف معه، يدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت...".
قيامهن رضي الله عنهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم:
ومن ذلك :
1. الاعتكاف، والظاهر أن غالب زوجاته رضي الله عنهنَّ لم يكن يعتكفن معه صلى الله عليه وسلم في حياته، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالظاهر اعتكافهن رضي الله عنهن بعده، ويدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده" والله أعلم.
2. قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد، يدل لذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه ، وفيه: "ثم لم يصل بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في ا لثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور".
وبعد:
فإن من أوكد الواجبات بداية الرجل عموماً – الداعية خصوصاً- بتعليم أهله وقرابته، قال تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين)، وإذا كان إنفاق الرجل على أهله أفضل من الصدقة وأعظم منها أجراً، فإن تعليمه وحسن معاملته لهم أفضل وأعظم أجراً من تقديم ذلك لغيرهم - مع الأهمية في كل – فنحن بحاجة إلى إحياء شعار: "ابدأ بمن تعول" ، مع بعث منهج التوازن والوسطية النبوية التي تهمل جانباً على حساب جانب آخر.
ملخَّصا عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع أزواجه في رمضان لفيصل البعداني.
إن هذه العناية بأمر الزوجة والأهل والأولاد تجعل من البيت المسلم يعيش في روحانية رمضان هذا الشهر الكريم، فعندما يقبل الأب والأم والأبناء والبنات على الصلاة والعبادة والذكر وقراءة القرآن، ولنحفزهم على ذلك الخير فمن دعا إلى هدى كان له من الخير والأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
نقل الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في لطائف المعارف، عن الإمام سفيان الثوري رحمه الله قال: أحبُّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، وينهض أهلهوولده إلي الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وإيقاظه لأهله ليس خاصاً في هذه العشر، بل كان يوقظهم في سائر السنة، ولكن إيقاظهم لهم في هذه العشر كان أكثر وأوكد.
عبد العزيز الفوزان
وهذا حرص منه عليه الصلاة والسلام على أن يدرك أهله من فضائل ليالي هذا الشهر الكريم ولا يقتصر على العمل لنفسه ويترك أهله في نومهم، كما يفعل بعض الناس وهذا لاشك أنه خطأ وتقصير ظاهر.
|