الضابط الثالث : جميع أحكام النُّصرة مبناها على المصالح المحضة أو الراجحة.
الأحكام الشرعية تارة تناط بالمصالح الخالصة المحضة وتارة تناط بالمصالح الراجحة الغالبة؛ والأولى نادرة الوجود والثانية كثيرة الوقوع ؛ لذا لا يصار إلى النّصرة إلاّ إذا ترجحت مصلحتها ولم يفضِ الدفع إلى فساد راجح على مصلحته؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -: " والشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة كالإيمان والجهاد؛ فإن الإيمان مصلحة محضة ، والجهاد وإن كان فيه قتل النفوس فمصلحته راجحة وفتنة الكفر أعظم فساداً من القتل؛ كما قال تعالى [وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] {البقرة:217} ، ونهى عن المفاسد الخالصة والراجحة كما نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وعن الإثم والبغى بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ، وهذه الأمور لا يبيحها قط فى حال من الأحوال ولا فى شرعة من الشرائع وتحريم الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك مما مفسدته راجحة، وهذا الضرب تبيحه عند الضرورة لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الإغتذاء به"([45]).
وهذا الضابط يرجع فيه إلى أصلين عظمين:
أولهما : أن تقدير المصالح والمفاسد يكون بميزان الشّرع والعدل لا بميزان الهوى والظلم.
والأصل الثاني: أن تمام الفقه في هذه الأمور متوقف على النظر إلى مآلات الأفعال ونتائج التصرفات وعواقب الأمور.
فإذا أدت مناصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأفعال إلى مفسدة راجحة فإنها تمنع لحين زوال المفسدة ؛ كما نهت الشريعة المؤمنين عن سب آلهة المشركين ـ مع ما فيه من مصلحة مراغمتهم ومغايظتهم ـ لئلا يؤول هذا السبُّ إلى سبِّ الله تعالى، قال تعالى: [ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {الأنعام:108} .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله -في تفسير الآية-: "يقول تعالى ناهياً لرسوله r والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو؛ كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، ﴿ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾..."([46]).
وقد نوّه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الأمر بعد أن علّق على الآية؛ فقال -رحمه الله-: "وذلك أنه في اللّجاجة أن يسبّ الجاهل من يعظمه مراغمة لعدوه إذا كان يعظمه أيضا؛ كما قال بعض الحمقى سبّوا علياً كما سبّوا عتيقكم: كفراً بكفر وإيماناً بإيماناً " ([47]).
كذلك لم يقم النبي –صلى الله عليه وسلم- الحدود في مكة؛ وذلك لدفع المفاسد الراجحة؛ إذ إقامتها في أولّ الإسلام سينفّر الناس عن الدين، فاقتضت مصلحة التأليف أن يؤخر إقامتها حتى تزول المفسدة، فالأمر لا يتعلق بالمكنة من إقامتها لأنه يمكن أن يقيمها النبي –صلى الله عليه وسلم- على المسلمين بمكة، لكنه تركها لتحصيل أرجح المصلحتين، ودفع أقوى المفسدتين.
وقد جاء النهي عن إقامة الحدود في الغزو ـ وهو مخرّج على ما تقدم ـ ففي حديث بسر بن أرطأة –رضي الله عنه- قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: [لا تقطع الأيدي في الغزو] ([48]).
وقد علل الصحابي الجليل زيد بن ثابت –رضي الله عنه- هذا النهي فقال: [لا تقام الحدود في أرض الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو] ([49]).
فالترك –هنا- لدفع مفسدة، وهي أن الجاني قد يفرّ إلى الكفار، فرارًا من الحد، وطلبًا للسلامة والنجاة، فمنعت الشريعة المشروع لإفضائه إلى الممنوع ([50]).
يقول ابن القيم - رحمه الله- :" إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكفّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه وقولهم: إن محمداً يقتل أصحابه؛ فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل" ([51]).
فمصلحة النُّصرة لا تتحصل بردود الأفعال ، ولا تنهض بالسَباب والشّتَّام ، ولا تقوم بمجرد رفع اللافتات والشعارات ؛ولا تبنى على التخيّلات والتوهمات، ولا تكون باستعجال المواجهات والمصادمات ؛ بل تتحصل بالفهم الدقيق لمقاصد الشريعة ، والنظر الثاقب في أولويات الدين، والبصيرة التامة بالحق ، والتضلع الكبير بأحكام النوازل، مع رسوخ في العلم ، وإخلاص في العمل، وصدق في القول، وربانية في المنهج، وخبرة بالواقع، وصبر على البلاء ،وشجاعة في القلب، ورحمة بالخلق.
__________________
قال أبو قلابة: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. رواه ابن سعد في الطبقات.
|