الحديث المقصود في السؤال جاء عن جماعة من الصحابة ، ورواه عنهم جماعة كبيرة من التابعين ، وأنقل واحدا من هذه الأحاديث ، فهي متقاربة في اللفظ والمعنى :
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وفِي يَمَنِنَا . قَالُوا : وَفِي نَجْدِنَا ؟ قَالَ : هُنَاكَ الزَّلاَزِلُ وَالْفِتَنُ ، وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ) رواه البخاري (1037) ومسلم (20905) ، واللفظ للبخاري .
ثم الكلام على هذا الحديث في مسائل :
المسألة الأولى :
من المعلوم لدى أهل العلم أن ما ورد في الكتاب أو السنة من النصوص التي فيها تفضيل بعض الأماكن أو الأقوام على بعض ، لا يعني ذلك أبدا تفضيلا لكل من انتسب إلى ذلك المكان ، أو لأولئك القوم ، على غيرهم من البشر ، وكذلك ما ورد في النصوص من ذم بعض الأماكن ، وذكر ما فيها من الشر ، فلا يعني ذلك – بأي حال من الأحوال – ذم وانتقاص جميع من ينتمي إلى ذلك المكان .
والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) الحجرات/13
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) رواه مسلم (2564)
فميزان الصلاح والفساد هو القلب والعمل ، وليس القبيلة أو العرق أو الجنس أو اللون ، وهذا التقرير متفق عليه بين أهل العلم .
روى مالك في "الموطأ" (1459) عن يحيى بن سعيد : أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدسة – يعني بلاد الشام - ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُهُ " انتهى .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (27/45-47) :
" وهو كما قال سلمان الفارسى ، فإن مكة حرسها الله تعالى أشرف البقاع ، وقد كانت فى غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها ، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها ، وقد كانت الشام فى زمن موسى عليه السلام قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين ، وفيها قال تعالى لبنى إسرائيل: ( سأريكم دار الفاسقين )
فإن كون الأرض دار كفر أو دار السلام أو إيمان ، أو دار سلم أو حرب ، أو دار طاعة أو معصية ، أو دار المؤمنين أو الفاسقين ، أوصافٌ عارضةٌ لا لازمة ، فقد تنتقل من وصف إلى وصف ، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم ، وكذلك بالعكس .
وأما الفضيلة الدائمة فى كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح ، كما قال تعالى ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ) الآية . وقال تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ) الآية . وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم )
فلا ينبغي للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة فى فضل أهلها مطلقا ، بل يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، ولكن العبرة بفضل الإنسان فى إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب .
وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد : كتفضيل القرن الثاني على الثالث ، وتفضيل العرب على ما سواهم ، وتفضيل قريش على ما سواهم ، فهذا هذا والله أعلم " انتهى .
المسألة الثانية :
وعليه فلا يجوز أن يفهم الحديث السابق على أنه ذم لجميع أهل نجد عبر التاريخ ، بل وليس فيه ذم ( نجد ) مطلقا ، وإنما ورد الذم والتنفير عنها مقيدا بوجود الفتن والشرور ، ولا يلزم أن يكون ذلك في جميع القرون مُطَّرِدًا ، بل قد يكون في عصر من العصور منارة علم وهدى وفضل وخير .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "مجموعة الرسائل والمسائل" (4/265) :
" وعلى كل حال ؛ فالذم إنما يكون في حال دون حال ، ووقت دون وقت ، بحسب حال الساكن ؛ لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل ، وإن كانت الأماكن تتفاضل ، وقد تقع المداولة فيها ، فإن الله يداول بين خلقه ، حتى في البقاع ، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر ، وبالعكس " انتهى .
المسألة الثالثة :
ليس في لفظ الحديث ذم لأهل ( نجد ) وساكنيها ، وإنما فيه ذكر الفتن والشرور التي ستقع وتخرج منها ، ولا يعني ذلك ذمَّ الساكنين مطلقا .
فقد جاء في السنة النبوية ذكر وقوع الفتن في المدينة المنورة ، كقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ ) رواه البخاري (1878) ومسلم (2885)
ولا يجوز أن يفهم من ذلك أي ذم لأهل المدينة المنورة .
يقول الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (ت 1326هـ) في كتابه "صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان" (ص/500) :
" وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية ، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه ، لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين ، وهذا لا يقول به أحد ، على أن مكة والمدينة كانتا في زَمَنٍ موضع الشرك والكفر ، وأي فتنة أكبر منهما ، بل وما من بلد أو قرية إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة ، فكيف يجترئ مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا ؟ وإنما مناطُ ذم شخصٍ معينٍ كونُه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع " انتهى .
فالمقصود من الحديث هو ذكر ما سيقع في منطقة ( نجد ) من الفتن والبلايا العظيمة في مرحلة من التاريخ ، وأنها ستكون كالزلازل التي تطال كل من فيها ، وسيكون كثير من أهل تلك البلاد ضحايا الفتنة ، ولا يعني أن جميع أهلها هم من يُثيرُها ويقومُ عليها ، ومَن فهم ذلك من الحديث فقد أساء وظلم .
يقول الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (5/305) :
" وجهلوا أيضاً أنَّ كونَ الرجل من بعض البلاد المذمومة لا يستلزم أنه هو مذموم أيضاً إذا كان صالحاً في نفسه , والعكس بالعكس ، فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر , وفي العراق من عالم وصالح , وما أحكم قول سلمان الفارسي لأبي الدرداء حينما دعاه أن يهاجر من العراق إلي الشام : أما بعد , فإن الأرض المقدسة لا تقدس أحداً , وإنما يقدس الإنسان بعمله " انتهى .
المسألة الرابعة :
فسر العلماء المتقدمون هذا الحديث ، وقالوا المقصود بالفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي فتنة مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة ، والشر الذي يأتي به ، وما يلحقه من المتنبئين الكذابين .
يقول الحافظ ابن حبان رحمه الله كما في "الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان" (15/24) بعد أن روى حديث عبد الله بن عمر أنه قال : ( ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير نحو المشرق ويقول :
إن الفتنة هاهنا ، إن الفتنة هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان )
قال أبو حاتم رحمه الله : " مشرق المدينة هو البحرين ، ومسيلمة منها ، وخروجه كان أول حادث حدث في الإسلام " انتهى .
كما فسره بعض أهل العلم أيضا بالفتن التي تحدث في ( العراق ) ، فهي في جهة المشرق عموما بالنسبة لمن في الحجاز ، وفي العراق ( نجد ) أيضا ،
فإن كل منطقة مرتفعة بالنسبة لغيرها تسمى نجدا ، وقد شملها بعض الصحابة في فهمهم لهذا الحديث :
فعن سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال : ( يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ! مَا أَسْأَلَكُمْ عَنْ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ ! سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ - مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ ، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ) رواه مسلم (2905)
فالحديث يشمل كل ( نجد ) : أي كل مرتفع من الأرض بالنسبة للحجاز في جهة المشرق ، وذلك يشمل نجد الحجاز ونجد العراق .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "مجموع الفتاوى" (27/41-42) :
" هذه لغة أهل المدينة النبوية فى ذاك الزمان ، كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق " انتهى .
ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/47) :
" كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية ، فكان كما أخبر ، وأول الفتن كان من قبل المشرق ، فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين ، وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به ، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة .
وقال الخطابي : ( نجد ) من جهة المشرق ، ومَن كان بالمدينة كان نَجدُهُ باديةَ العراق ونواحيها ، وهي مشرق أهل المدينة ، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض ، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها ، وتهامة كلها من الغور ومكة من تهامة . انتهى كلام الخطابي .
وعُرف بهذا وهاء ما قاله الداودي : أن ( نجدا ) من ناحية العراق ، فإنه توهم أن نجدا موضع مخصوص ، وليس كذلك ، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدا ، والمنخفض غورا " انتهى كلام الحافظ ابن حجر .
ويقول علامة العراق محمود شكري الآلوسي عن بلده العراق في "غاية الأماني" (2/148) :
" ولا بدع ، فبلاد العراق معدن كل محنة وبلية ، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية ، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى ، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق ، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به...إنما نبغوا وظهروا بالبصرة ، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت ، والقول الشنيع في علي وسائر الأئمة ومسبة أكابر الصحابة..كل هذا معروف مستفيض " انتهى باختصار .
وللشيخ "حكيم محمد أشرف سندهو" رحمه الله ، رسالة في بيان ما ذكرناه بعنوان : " أكمل البيان في شرح حديث : نجد قرن الشيطان " ، وهي مطبوعة ، قال الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي في تقدمته لها ـ ص (8) ـ :
" والموضع الذي يُعَيَّن من قِبَل أهل الجهل والضلالة اليوم [ يعني : نجد المعروف في السعودية ]
لم يقله أحد من السلف ولا من الخلف ، إلا بعد ظهور دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، التجديدية للدين الحنيف ، إلا هؤلاء الذين لم يفهموا هذه العقيدة الصحيحة ، أو يتجاهلون عنها ، ولم يعرفوا التاريخ الإسلامي الصحيح الذي يدلهم على تلك الفتن العظيمة التي ظهرت ظهورا واضحا بينا في ذلك النجد الحقيقي ... " انتهى .
المسألة الخامسة :
ويخطئ كثير من الناس حين يظنون أن المقصود بـ ( قرن الشيطان ) شخص معين ، إذ المقصود هو مطلع الشمس وما يعتريها عند الشروق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( فَإِنَّهَا – يعني الشمس - تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ) رواه البخاري (3273) ومسلم (612)
ودليل ذلك ما في رواية البخاري (7092) : قال صلى الله عليه وسلم : ( الْفِتْنَةُ هَا هُنَا ، الْفِتْنَةُ هَا هُنَا ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ ، أَوْ قَالَ : قَرْنُ الشَّمْسِ ) والشك من الراوي .
يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/46) :
" وأما قوله: " قرن الشمس " فقال الداودي :
للشمس قرن حقيقة ، ويحتمل أن يريد بالقرن قوة الشيطان ، وما يستعين به على الإضلال ، وهذا أوجه ، وقيل إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له ،
قيل : ويحتمل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه " انتهى .
المسألة السابعة :
فأي حجة تبقى بعد ذلك لمن استدل بهذا الحديث على ذم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، ودعوته التجديدية ؟!!
وبأي برهان يُعَيِّنُ بعضُ الحاقدين - من غلاة المتصوفة ومن الرافضة - مقصودَ النبي صلى الله عليه وسلم من الذم في واحد من أشهر علماء المسلمين ، وأشهر دعاة الإصلاح في القرون المتأخرة ،
والذي تحمل دعوة التوحيد علما وعملا ودعوة ، وعَدَّهُ أهلُ العلم مجدِّدَ ذلك القرن؟!!
أهكذا تُفَسَّرُ الأحاديث النبوية ، بالهوى والتشهي !
وهكذا تحول الأحاديث لأغراض مذهبية أو عنصرية أو طائفية ؟!!
وانظر عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للفائدة : جوابَ السؤال رقم (36616)
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب