جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
هديتي لأهل السنة في العراق
يا من لا مانع لما أعطيت، ولا راد لما قضيت، نحمدك على ما نورت قلوبنا بنور الهداية، وعصمتنا من الضلالة والغواية، ونصلي ونسلم على حبيبك الذي هديت به الأنام، وكشفت ببعثته غياهب الجهالات وشبهات الأوهام وعلى آله الأخيار، وأصحابه الذين أغاظ الله بهم الكفار.أما بعد : فإن المطالع لحال أهل السنة في العراق يجد من الإستضعاف ما الله به عليم ، وهذا نتج من بعد عن الله تعالى ، وإتباع الوطنية المقيتة ، التي لا تسمن ولا تغني من جوع !! ، واستعجال بعض الشباب الدعوي للأمور قبل وقتها ، وكما قيل : ((من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه)) ، فوجب الوقوف وقفة صادقة مع النفوس ، ولهذا سطرت هذه الكلمات راجياً من الله الثواب ، وأسميتها "وقفات تربوية منهجية مع قوله تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السَّجْدَةِ:24] .".والله الموفق 1-تفسيرالآية قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- : (( وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، أَيْ: لَمَّا كَانُوا صَابِرِينَ عَلَى أَوَامِرِ اللَّهِ وَتَرْكِ نَوَاهِيهِ وَزَوَاجِرِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ، كَانَ مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. ثُمَّ لَمَّا بَدَّلُوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سُلِبُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ قَاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، فَلَا عَمَلَ صَالِحًا، وَلَا اعْتِقَادَ صَحِيحًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ: لَمَّا صَبَرُوا عَنِ الدُّنْيَا: وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ. قَالَ سُفْيَانُ: هَكَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُقتَدى بِهِ حَتَّى يَتَحَامَى عَنِ الدُّنْيَا. قَالَ وَكِيعٌ: قَالَ سُفْيَانُ: لَا بُدَّ لِلدِّينِ مِنَ الْعِلْمِ، كَمَا لَا بُدَّ لِلْجَسَدِ مِنَ الْخُبْزِ)). 2-مسائل وفوائد قال شيخ الإسلام ابن تيمية-أقر الله أعيننا بمسجد بأسمه في عراقنا- : (( فالصبر واليقين يُنال بهما الإمامة في الدين ، فإذا انضاف إلى هذا الصَّبرِ قوةُ اليقين والإيمان تَرَقَّى العبدُ في درجات السعادة بفضل الله تعالى، و ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) . ولهذا قال الله تعالى: ((ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدّةُ أشياءَ: أحدها: أن يشهدَ أن الله سبحانه وتعالى خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، ومالم يشأ لم يكن، فلا يتحرك في العالم العُلْوِيّ والسّفليّ ذرَّة إلاّ بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بكَ، تَسْتَرِحْ من الهمّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) . فإذا شهد العبدُ أن جميع ما يناله منْ المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه [بسببها] ، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم. وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلاّ ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه . ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلاّ بذنبٍ، ولا رُفِع إلاّ بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) . ولمّا كان الناسُ عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم يأخذ فوق حقّه، ومقتصدٌ يأخذ بقدرِ حقِّه، ومحسنٌ يعفو ويترك حقَّه، ذَكَر الأقسامَ الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها للظالمين. ويشهد نداءَ المنادي يوم القيامة: "إلاَ لِيَقُم مَن وَجَب أجرُه على الله" ، فلا يَقُمْ إلاّ من عفا وأصلح. وإذا شهِدَ مع ذلك فوتَ الأجر بالانتقام والاستيفاء، سَهُلَ علمِه الصبر والعفو. الرابع: أن يشهد أنه إذا عَفا وأحسنَ أورثَه ذلك من سلامةِ القلب لإخوانه، ونَقائِه من الغِشّ والغِلّ وطلبِ الانتقام وإرادةِ الشرّ، وحصَلَ له من حلاوة العفو ما يزيد لذّتَه ومنفعتَه عاجلاً وآجلاً، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام أضعافًا مضاعفةً، ويدخل في قوله تعالى: ((والله يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134)) ، فيصير محبوبًا لله، ويصير حالُه حالَ من أُخِذَ منه درهمٌ فعُوضَ عليه ألوفًا من الدنانير، فحينئذٍ يَفرحُ بما منَّ الله عليه أعظمَ فرحًا يكون. الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث يقول: "ما زاد الله عبدًا بعَفْوٍ إلاّ عزًّا" . فالعزّ الحاصل له بالعفو أحبّ إليه وأنفع له من الَعزّ الحاصل له بالانتقام، فإنّ هذا عِزٌّ في الظاهر، وهو يُورِث في الباطن ذُلاًّ، والعفوُ ذُلٌّ في الباطن، وهو يورث العزَّ باطنًا وظاهرًا. السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يَشهدَ أن الجزاء من جنس العمل، وأنه نفسه ظالمٌ مذنب، وأنّ من عَفا عن الناس عَفَا الله عنه، ومن غَفَر لهم غَفَر الله له. فإذا شَهِدَ أن عفوه عنهم وصفحَه وإحسانَه مع إساءتِهم إليه سببٌ لأن يجزيه الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويُحسِن إليه على ذنوبه، ويَسْهُل عليه عفوُه وصبرُه، ويكفي العاقلَ هذه الفائدةُ. السابع: أن يَعلم أنه إذا اشتغلتْ نفسُه بالانتقام وطلب المقابلة ضاعَ عليه زمانُه، وتفرَّقَ عليه قلبُه، وفاتَه من مصالحِه مالا يُمَكِن استدراكُهُ، ولعلّ هذا أعظم عليه من المصيبة التي نالتْه من جهتهم، فإذا عفا وصَفحَ فَرغَ قلبُه وجسمُه لمصالحه التي هي أهمُّ عنده من الانتقام. الثامن: أن انتقامَه واستيفاءَه وانتصارَه لنفسِه، وانتصارَه لها، فإن رسول الله عليه وسلم ما انتقمَ لنفسِه قَطُّ، فإذا كان هذا خيرَ خلق الله وأكرمَهم على الله لم يَنتقِمْ لنفسِه، مع أن أَذَاه أَذَى الله، ويتعلّقُ به حقوق الدين، ونفسه أشرف الأنفُس وأزكاها وأبرُّها، وأبعدُها من كلّ خُلُقٍ مذمومٍ، وأحقُّها بكل خُلُقٍ جميلٍ، ومع هذا فلم يكن يَنتقِم لها، فكيف يَنتقِمُ أحدنا لنفسِه التي هو أعلم بها وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تُساوِي نفسُه عنده أن ينتقم لها، ولا قدرَ لها عنده يُوجِبُ عليه انتصارَه لها. التاسع: إن أُوذِيَ على ما فعلَه لله، أو على ما أُمِرَ به من طاعتِه ونُهِي عنه من معصيتِه، وجبَ عليه الصبرُ، ولم يكن له الانتقام، فإنّه قد أوذِي في الله فأجرُه على الله. ولهذا لمّا كان المجاهدون في سبيل الله ذهبتْ دماؤهم وأموالُهم في الله لم تكن مضمونةً، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله لا على الخلق، فمن طلبَ الثمنَ منهم لم يكن له على الله ثمنٌ، فإنه من كان في الله تَلَفُه كان على الله خَلَفُه، وإن كان قد أُوذِي على مصيبة فليَرجعْ باللومِ على نفسِه، ويكون في لَومِه لها شُغْلٌ عن لَومِه لمن آذاه، وإن كان قد أُوذِي على حظّ فليُوطِّن نفسَه على الصبر، فإنّ نيلَ الحُظوظِ دونَه أمرٌ أَمَرُّ من الصَّبر، فمن لم يصبر على حرِّ الهَوَاجر والأمطارِ والثلوج ومشقةِ الأسفارِ ولصوصِ الطريقِ، وإلاّ فلا حاجةَ له في المتاجر. وهذا أمر معلوم عند الناس أنّ مَن صدَقَ في طلب شيء من الأشياء بُدِّل من الصبر في تحصيله بقدر صدقِه في طلبِه. العاشر: أن يَشهدَ معيَّهَ الله معه إذا صَبَر، ومحبَّهَ الله له إذا صَبَر، ورِضاه. ومن كان الله معه دَفَع عنه أنواعَ الأذى والمضرَّات مالا يَدفعُه عنه أحدٌ من خلقِه، قال تعالى: (( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) )) ، وقال تعالى: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )) . الحادي عشر: أن يَشهد أن الصبرَ نِصفُ الإيمان، فلا يبدّل من إيمانه جَزاءً في نُصرةِ نفسِه، فإذا صَبَر فقد أَحرزَ إيمانَه، وصانَه من النقص، والله يدفع عن الذين آمنوا. الثاني عشر: أن يشهد أنّ صبرَه حكمٌ منه على نفسِه، وقَهرٌ لها وغَلَبةٌ لها، فمتَى كانتِ النفسُ مقهورةً معَه مغلوبةً، لم تطمعْ في استرقاقِه وأَسْرِه وإلقائِه في المهالك، ومتى كان مطيعًا لها سامعًا منها مقهورًا معها، لم تزَلْ به حتَّى تُهلِكَه، أو تتداركَه رحمةٌ من ربِّه. فلو لم يكن في الصبر إلاّ قَهرُه لنفسِه ولشيطانِه، فحينئذٍ يَظهرُ سلطانُ القلبِ، وتَثبُتُ جنودُه، ويَفرَحُ ويَقوَى، ويَطْرُد العدوَّ عنه. الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبرَ فاللهُ ناصرُه ولابُدَّ، فاللهُ وكيلُ من صَبر، وأحالَ ظالمَه على الله، ومن انتصَر لنفسِه وكلَهُ اللهُ إلى نفسِه، فكان هو الناصر لها. فأينَ مَن ناصرُه اللهُ خيرُ الناصرين إلى مَن ناصِرُه نفسُه أعجز الناصرين وأضعفُه؟ الرابع عشر: أن صَبْرَه على من آذاه واحتمالَه له يُوجِبُ رجوعَ خَصْمِه عن ظُلمِه، ونَدامتَه واعتذارَه، ولومَ الناسِ له، فيعودُ بعد إيذائِه له مستحييًا منه نادمًا على ما فعلَه، بل يَصيرُ مواليًا له. وهذا معنى قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)) . الخامس عشر: ربّما كان انتقامُه ومقابلتُه سببًا لزيادة شرِّ خصمِه، وقوّةِ نفسِه، وفكرته في أنواع الأذى التي يُوصِلُها إليه، كما هو المشاهَد. فإذا صبر وعفا أَمِنَ من هذا الضرر، والعاقلُ لا يختارُ أعظمَ الضررين بدَفْعِ أدناهما. وكم قد جلبَ الانتقامُ والمقابلةُ من شرٍّ عَجَزَ صاحبُه عن دفعِه، وكم قد ذهبتْ نفوس ورِئاسَات وأموال لَو عفا المظلومُ لبقيتْ عليه. السادس عشر: أنّ من اعتادَ الانتقام ولم يَصبِرْ لابُدَّ أن يقعَ في الظلم، فإنّ النفس لا تَقتصِرُ على قدرِ العَدْل الواجب لها، لا علمًا ولا إرادةً، وربما عجزت عن الاقتصار على قدرِ الحقَّ، فإنّ الغضبَ يَخرُجُ بصاحبه إلى حدٍّ لا يَعقِلُ ما يقول ويفعل، فبينما هو مظلوم يَنتظِرُ النَّصْرَ وَالعِز، إذ انقلبَ ظالمًا يَنتظِرُ المقتَ والعقوبةَ. السابع عشر: أنّ هذه المَظْلَمةَ التي ظُلِمَها هي سبب إمّا لتكفيرِ سيئتِه، أو رَفْعِ درجتِه، فإذا انتقمَ ولم يَصبِرْ لم تكنْ مُكفِّرةً لسيئتِه ولا رافعةً لدرجتِه. الثامن عشر: أنّ عفوَه وصبرَه من أكبر الجُنْدِ له على خَصْمِه، فإنّ من صَبَر وعفا كان صبرُه وعفوه مُوجِبًا لذُل عدوِّه وخوفِه وخَشيتِه منه ومن الناس، فإنّ الناس لا يسكتون عن خصمِه، وإن سَكتَ هو، فإذا انتقمَ زالَ ذلك كلُّه. ولهذا تَجِدُ كثيرًا من الناس إذا شَتَم غيرَه أو آذاه يُحِبُّ أن يَستوفيَ منه، فإذا قابله استراحَ وألقَى عنه ثِقلاً كان يجده. التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمِه استشعرتْ نفسُ خصمِه أنه فوقَه، وأنه قد رَبِحَ عليه، فلا يزال يرى نفسَه دونَه، وكفى بهذا فضلاً وشرفًا للعفو. العشرون: أنه إذا عفا وصَفَحَ كانت هذه حسنةً، فتُوَلِّدُ له حسنةً أخرى، وتلك الأخرى تُولِّدُ له أخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا تزال حسناتُه في مزيد، فإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنة، كما أنّ من عقاب السيئةِ السيئة بعدها. وربَّما كان هذا سببًا لنجاتِه وسعادتِه الأبدية، فإذَا انتقم وانتصرَ زال ذلك. والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله )) اه كلامه رحمه الله. 3-سبيل النجاة من الفتن ، يقول ابن القيم -رحمه الله- : (( وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأى على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثانى: أصل فتنة الشهوة. ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: {وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] . فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين. وجمع بينهما أيضاً فى قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] . فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكف عن الشهوات. وجمع بينهما فى قوله: {وَاذْكْرُ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] . فالأيدى: القوى والعزائم فى ذات الله، والأبصار: البصائر فى أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك. قال ابن عباس "أولى القوة فى طاعة الله، والمعرفة بالله". وقال الكلبى "أولى القوة فى العبادة، والبصر فيها". وقال مجاهد "الأيدى: القوة فى طاعة الله، والأبصار: البصر فى الحق". وقال سعيد بن جبير "الأيدى: القوة فى العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم". وقد جاء فى حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات". فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان)) 4- أنواع الصبر: قال أبو عمر: سألت الحليميّ عن الصّبر، قال: ثلاثة أنواع: الصّبر على طاعة الجبّار، والصّبر عن معاصي الجبّار، والصّبر على الصّبر على طاعته وترك معصيته . وقال ابن القيّم: الصّبر باعتبار متعلّقه ثلاثة أقسام: صبر الأوامر والطّاعات حتّى يؤدّيها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتّى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتّى لا يتسخّطها . وقال الفيروز اباديّ: الصّبر على ثلاثة أنواع: (1) صبر بالله، (2) صبر مع الله، (3) صبر لله . أهمية الصبر: قال ابن تيميّة- رحمه الله تعالى-: «قد ذكر الله الصّبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعا. وقرنه بالصّلاة في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (البقرة/ 45) ، وجعل الإمامة في الدّين موروثة عن الصّبر واليقين بقوله: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (السجدة/ 24) . فإنّ الدّين كلّه علم بالحقّ وعمل به، والعمل به لا بدّ فيه من الصّبر. بل وطلب علمه يحتاج إلى الصّبر. كما قال معاذ بن جبل- رضي الله عنه-: عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف الله ويعبد، وبه يمجّد الله ويوحّد، يرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للنّاس قادة وأئمّة يهتدون بهم وينتمون إلى رأيهم. فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بدّ في الجهاد من الصّبر، ولهذا قال تعالى: وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (سورة العصر) ، وقال تعالى: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (ص/ 45) . فالعلم النّافع هو أصل الهدى، والعمل بالحقّ هو الرّشاد، وضدّ الأوّل الضّلال، وضدّ الثّاني الغيّ. فالضّلال العمل بغير علم، والغيّ اتّباع الهوى، قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (النجم/ 1- 2) فلا ينال الهدى إلّا بالعلم ولا ينال الرّشاد إلّا بالصّبر. ولهذا قال عليّ: «ألا إنّ الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، فإذا انقطع الرّأس بان الجسد، ثمّ رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له» . 5- المصابرة من أجل القضية : المصابرة مفاعلة- من الصّبر، ويكثر استعمال هذه الصّيغة- كما يقول الصّرفيّون- في أحد أمرين؛ المشاركة في الأمر كما في نحو قاتل فلان فلانا أي أنّهما اشتركا معا في القتال، الآخر: الموالاة والمتابعة في الأمر كما في قول الله تعالى: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (الأعراف/ 21) أي والى في القسم ، وعلى ذلك فإنّ المصابرة قد تعني: 1- المشاركة في الصّبر كأن يصبر الإنسان عن المعاصي، ويصبر الشّيطان على الإغواء وحينئذ تكون الغلبة لأكثرهما صبرا. 2- موالاة الصّبر ومتابعته سواء كان صبرا عن المعاصي أو صبرا على الطّاعات. وكما أمرنا المولى عزّ وجلّ بالصّبر فقد أمرنا أيضا بالمصابرة في قوله عزّ من قائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران/ 200) . فما معنى المصابرة الّتي أمرنا بها؟ قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى- إجابة عن هذا التّساؤل: «قيل في قوله تعالى اصْبِرُوا وَصابِرُوا.. الآية» أنّه انتقال من الأدنى إلى الأعلى، فالصّبر دون المصابرة . وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله. وقيل: اصبروا في الله، وصابروا بالله، (أي أنّ الصّبر يكون في طاعة الله والمصابرة تكون في الاستعانة بالله) . وقيل: اصبروا على النّعماء، وصابروا على البأساء والضّرّاء وقال- رحمه الله تعالى- فالصّبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوّك . وقال- رحمه الله- في تفسير الآية الكريمة مؤكّدا هذا المعنى الأخير: أمرهم بالصّبر، وهو حال الصّابر في نفسه، والمصابرة مقاومة الخصم في ميدان الصّبر، فإنّها مفاعلة تستدعي وقوعها بين اثنين- كالمشاتمة والمضاربة - وهي إذن حال المؤمن في الصّبر مع خصمه، أمّا المرابطة فهي الثّبات واللّزوم والإقامة على الصّبر والمصابرة، فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبّد بالتّقوى، فأخبر سبحانه أنّ ملاك ذلك كلّه: التّقوى، وأنّ الفلاح موقوف عليها، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وهذا الّذي ذهب إليه ابن القيّم هو عين ما رجّحه الطّبريّ عند ما قال: وأولى التأويلات في ذلك قول من قال: «اصبروا على دينكم وطاعة ربّكم، وذلك أنّ الله لم يخصّص من معاني الصّبر على الدّين والطّاعة شيئا فيجوز إخراجه من ظاهر التّنزيل، ومن ثمّ يكون الأمر بالصّبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى صعبها وشديدها وسهلها وخفيفها، أمّا المصابرة فيقصد بها مصابرة الأعداء من المشركين لأنّ المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكون من فريقين أو اثنين فصاعدا، ولا تكون من واحد إلّا قليلا، وإذا كان ذلك كذلك فإنّما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم وألّا يكون عدوّهم أصبر منهم «6» . وقال النّيسابوريّ: المراد بالصّبر جهاد النّفس بالرّياضات، وبالمصابرة: مراقبة القلب عند الابتلاءات . وقال القرطبيّ: المصابرة: في قول زيد بن أسلم: «مصابرة الأعداء» وقال الحسن: «على الصّلوات الخمس» ، وقيل: إدامة مخالفة النّفس عن شهواتها فهي تدعو وهي تنزع ، وقال عطاء والقرظيّ (محمّد بن كعب) : صابروا الوعد الّذي وعدتم، أي لا تيأسوا وانتظروا الفرج. قال القرطبيّ- رحمه الله تعالى- والقول الأوّل (أي قول زيد بن أسلم) هو رأي الجمهور، ومثله قول عنترة: فلم أر حيّا صابروا مثل صبرنا ... ولا كافحوا مثل الّذين نكافح أي صابروا العدوّ في الحرب، ولم يبد منهم جبن ولا خور . وقال أبو حيّان: أمر الله تعالى بالصّبر والمصابرة والرّباط، فقيل اصبروا وصابروا بمعنى واحد للتّوكيد ، ثمّ ذكر الآراء الأخرى الّتي ذكرها القرطبيّ ، وذكر ابن كثير- رحمه الله تعالى- أنّ الصّبر على الصّلوات، والمصابرة على النّفس والهوى . قلت: ولا تنافي بين هذه الأقوال جميعا لأنّ الصّيغة تحتملها معا، وقد قرّر علماء الأصول «أنّ المعاني المحتملة (للّفظ أو الصّيغة) مرادة لله تعالى . من مظاهر المصابرة: ذكر ابن القيّم وغيره للمصابرة صورا عديدة، وأشكالا متنوّعة، ذكرناها فيما سبق، ونضيف إليها: 1- المثابرة في إنجاز الأعمال والمواظبة عليها، طالما أنّ هذا العمل في طاعة الله تعالى، وفي هذا يلتقي معنى الاصطبار مع المصابرة، قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ (مريم/ 65) ، وقال تعالى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها (طه/ 132) . 2- متابعة الأعمال وعدم اليأس من إنجازها لما في هذا من إدامة للصّبر عليها، وانتظار للفرج الموعود في قوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف/ 30) . الصبر على الابتلاء: الابتلاء في اللّغة مصدر قولهم: ابتلى الله العبد ابتلاء إذا اختبره في صبره وشكره «8» . أمّا في الاصطلاح فقد قال الكفويّ: الابتلاء في الأصل هو التّكليف بالأمر الشّاقّ لكنّه لمّا استلزم الاختبار إلى من يجهل العواقب ظنّ ترادفهما ، وقال المناويّ: البلاء كالبليّة: الامتحان، وسمّي الغمّ بلاء لأنّه يبلي الجسم . وقال بعض الباحثين المحدثين: الابتلاء هو المظهر العمليّ لعلاقة العبوديّة بين الله والإنسان، ومعنى هذه العلاقة كمال الطّاعة لكمال المحبّة، والحياة الدّنيا هي الزّمن المقرّر لهذا الابتلاء، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ (الملك/ 2) . وينقسم الابتلاء إلى قسمين: الأوّل: الابتلاء بالشّرّ، وهو مناط الصّبر. الثّاني: الابتلاء بالخير، وهو مناط الشّكر . وفيما يتعلّق بالنّوع الأوّل، فإنّه يشمل الابتلاء ضرورة الابتلاء بالشّرّ: قال ابن القيّم- رحمه الله-: سأل رجل الشّافعيّ رحمه الله- فقال: يا أبا عبد الله، أيّهما أفضل للرّجل أن يمكّن (فيشكر الله عزّ وجلّ) أو يبتلى (بالشّرّ فيصبر) ؟ فقال الشّافعيّ: لا يمكّن حتّى يبتلى، فإنّ الله ابتلى نوحا وإبراهيم ومحمّدا- صلوات الله عليهم أجمعين- فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يظنّ أحد أن يخلص من الألم البتّة . الصبر والمصابرة في القرآن الكريم: ورد الصّبر في القرآن الكريم في سياقات عديدة منها: 1- الثّناء على أهله كقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ (البقرة/ 177) . 2- الاستجابة لأمر الله تعالى بالصّبر وإيجاب معيّته لهم تلك المعيّة الّتي تتضمّن حفظهم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة/ 153) ، وقوله تعالى وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال/ 46) . 3- الإخبار أنّ أهل الصّبر مع أهل العزائم وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ (الشورى/ 43) . 4- يورث صاحبه الإمامة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (السّجدة/ 24) . 5- اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان. 6- إطلاق البشرى لأهل الصّبر على الابتلاء بمصائب الحياة الدّنيا ومصاعبها بأنّ جزاءهم على صبرهم هو الحصول على صلوات من ربّهم ورحمة وهداية إلى السّراط المستقيم بإذن الله كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة/ 155- 157) . 7- إنّ الصّابرين بأنفسهم على طاعة الله والتّكاليف المنوطة بهم والتّقوى ومجاهدة النّفس ونهيها عن الهوى وتزكيتها ومحاسبتها ومراقبتها عند الابتلاءات جزاؤهم أن يوفّى لهم أجورهم بغير حساب لقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ...(الزمر/ 9- 10) ، وأولئك الصّابرين لهم عقبى الدّار، لقوله تعالى وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ...(الرعد 22- 24) . . 8- ضمان النّصر والمدد لهم كقوله بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (آل عمران/ 125) . هذا والله أعلم
__________________
[gdwl][rainbow][align=justify]إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ ** فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها ** فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا** فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا** شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا** عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ [/align][/rainbow][/gdwl] |
أدوات الموضوع | |
|
|