جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
الأغلبية، هل هي معيار؟ ولماذا؟
الأكثرية، أو الأغلبية، سمها ما شئت، يحرص عليها الكثيرون، ويعتبرونها في أغلب الأحيان معيارا للصواب، وذلك من باب أن ما أجمعت عليه الأغلبية لو لم يكن صوابا لما فات الكثير ممن قال به، وهذه المنهجية في النظر إلى الأكثرية ليست جديدة على البشرية، ذلك أن طبيعة الإنسان أن يتأثر بمن حوله، وعلى الأخص إن كان من حوله أكثر منه علما أو أكبر منه سنا أو أقدر منه حكمة وخبرة.
ولكن، هل تعتبر الأغلبية معيارا للصواب، هل تستحق الأغلبية أن تتبع؟ هل تصلح الأغلبية أن تكون منهجا يسير عليه الإنسان في حياته؟ هذا ما يراد تركيزه في الناس، مع أن الحقيقة أن الأغلبية ليست معيارا للصواب ولا يمكن لها أن تكون كذلك، لأن الصواب لا يعرف بكثرة الأصوات التي تصوت عليه، بل يعرف بالمنهج الذي يعرف فيه الخطأ من الصواب، عندما يمرض ولدك فإنك لا تعرض مرضه على الأغلبية لتعرف رأي الأكثرية في حالته: هل تجري له عملية جراحية أم لا؟ بل تنبذ الأغلبية وراء ظهرك وتأخذ برأي الطبيب المختص. لماذا عندما نتعامل في حياتنا اليومية فيما يخص مصالحنا لا نرجع إلى الأغلبية، لماذا لا نرجع إلى الأغلبية لنقرر مصير مريض مثلا، أو توجه أحد أولادنا في دراسته؟ أو في سفاسف الأمور كإصلاح سيارة أو جهاز، بل نحرص على المختصين لنأخذ الرأي منهم وإن خالف رأي الأغلبية. ولماذا نجعل الأغلبية حكما علينا في ثقافتنا، في فكرنا، في ديننا؟ أمر عجيب والله. تعرض أحكام الشرع على الأغلبية لتصوت عليها، فإن أخذت بها الأغلبية أخذنا بها واعتبرناها ملزمة وإن تركتها الأغلبية تركناها واعتبرناها لاغية. قال تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) [الأنعام: 116] وقال جل وعلا: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 49] . ألا تلاحظون أن تركيز فكرة الأغلبية وجعلها منهجا لمعرفة الخطأ من الصواب قد برز في أيامنا هذه إلى حد كبير؟ وعلى جميع المستويات، فمثلا: فكرة التصويت بالإنترنت أو بالتلفون أو بأي وسائل الاتصال الحديثة على أمر معين، إذ تستحث الهمم للتصويت على فكرة ما، كفكرة أعظم رجل في التاريخ، ودعوة الناس إلى فتح أكثر من حساب للتصويت به فيكون للشخص الواحد أكثر من صوت، أو فكرة ترشيح مطرب ما، فيهب الشباب والشابات بفتح حسابات متعددة والتصويت بها على المطرب المطلوب من أجل إنجاحه، وهم يمارسون هذا بشكل طبيعي، وينجح المطرب فيتصورون أنه بحق مطرب ناجح مع أن الأصوات التي حصل عليها مزيفة ولا تنم أصلا عن الحقيقة. حصلت غيرة بين ممثلين سينمائيين، وكان الأول أكثر اشتهارا من الثاني، فسئل الممثل الثاني: لماذا تنقص من قدر الممثل فلان؟ فأجاب: لأن أفلامه وأعماله الفنية هابطة. ثم انتقلوا للممثل الثاني وقالوا له: إن فلانا يقول أن أفلامك هابطة. فأجاب: الحكم بيني وبينه الشباك؟ أي شباك السينما وكثرة مرتادي أفلامه. حادثة سخيفة، ولكنها تعبر عن انسياق الناس وراء الأغلبية، فالممثل يعتبر نجاحه هو بكثرة من يشاهد أفلامه، فلا معيار للنجاح عنده، لا معيارا أخلاقيا ولا فكريا ولا مبدئيا، وإنما معيار جماهيري، ولو كانت الجماهير منحطة وانهمرت على أفلامه فأفلامه على كل حال ناجحة، والدليل: كثرة المشاهدين. لقد دخلت الأغلبية حياتنا، وصرنا نتأثر بها إلى حد مخيف، يدخل الواحد على التويتر وأول ما يلفت نظره هو عدد المتابعين (الفولورز) فإن كان العدد كبيرا استجاب اللاوعي عنده بشكل طبيعي إلى عمل اتباع لصاحب الحساب لأن عدد متبعيه كبير وبالتالي فلا بد أن يكون جيدا. بل وصل الحال ببعض المشهورين أو المغمورين أن يشتروا من شركات متخصصة أعدادا هائلة من المتبعين ليشتروا بالتالي عقولهم. عوّدوا أبناءنا وبناتنا على هذه الأغلبية المنحطة، تلبس البنت ما رث وقبح من الملابس بحجة أن أكثر البنات تلبسه، ويقلد الشاب الآخرين بتسريحة شعره لمجرد كثرة من يتزين بها. صار الحق والصواب يشترى بالمال، وبالتالي من يملك أكثر يملك من الحق أكثر، ومن لا يملك فلا حق عنده. وبالطبع فأنا لا أقصد عملية الانتخاب لأنها لا علاقة لها بالأمر، فهي نوع من التوكيل، ولذلك فالناس تختار من تراه صالحا لتمثيلها في مجلس الشورى مثلا، وهذه أيضا لم تسلم من المفهوم الخاطئ للأغلبية. هل يصلح أن يجتمع الناس ليقرروا بالأغلبية نوع الدواء الذي يجب توفيره لمرض ما؟ هل يصلح أن يجتمع الناس ليقرروا بالأغلبية نوع الأجهزة الطبية التي تستخدم في المستشفيات؟ هل يصلح أن يجتمع الناس ليقرروا بالأغلبية طريقة بناء الجسور، وتعبيد الطرق، وتخطيط المدن؟ طبعا لا يصلح ذلك كله، فهذا من اختصاص الفنيين أو المختصين من أطباء ومهندسين وإداريين وإن كانوا قلة. ولكن يصلح أن تعرض ثقافة أبنائنا على الأغلبية لتقرر بشأنها ما تريد وفق منهج التصويت. يصلح أن يعرض ديننا لنأخذ منه ما نشاء ونترك ما نشاء وفق الأغلبية. يصلح أن تكون أخلاقنا نهبا للأغلبية تحكم بها بما تريد وإن كانت أغلبية مهترئة، إباحية، فاسدة. مع أن هذه الثلاث الأخيرة أهم بكثير من الأجهزة الطبية والأدوية وتعبيد الطرق وبناء الجسور، فهي تتعلق بمصيرنا، مصير أبنائنا، كيان أمتنا، هويتنا. انظروا كيف صارت مناهج الحياة التي لا تقوم المجتمعات إلا بها نهبا للأغلبية بغض النظر عن واقعها. تقرر الأغلبية في بريطانيا إباحة زواج الرجل بالرجل! فيقر الزواج ويصبح نافذا في المجتمع، وعلى الجميع التعامل معه، فهو في النهاية رأي الأغلبية التي تعتبر مقدسة. أي انحطاط أكبر من هذا الانحطاط، أيترك الإنسان ليكون عبدا لأغلبية قد تكون فاسدة، أو إباحية أو مجموعة من البهائم، أولو كانت الأغلبية قرودا، فهل ستحكمنا القرود؟ انتبهوا أيها الكرام، وتعالوا لنعرف معيار الصواب والخطأ. إن تكلمت في العلم والتخصص فلا قيمة للأغلبية فيهما، بل الرأي فيهما للمتخصصين وإن كانوا شخصا واحدا. وإن تكلمت في الدين فلا قيمة للأغلبية فيه، بل القول فيه للشرع والشرع فقط. وإن تكلمت في الحروب والسلاح فلا قيمة للأغلبية فيها ولكنها للعسكريين والقادة الحربيين. فلماذا إذن تتحكم الأغلبية في حياتنا وكأنها هي المنهج المقدس الذي لا يمس؟ لماذا نقبل أن نضع عقولنا على طاولة الأغلبية؟ لماذا نضع أحكام ربنا تحت رحمة الأغلبية؟ هل يصير الحرام حلالا إذا أجمعت البشرية على أنه حلال؟ هل الحلال حراما إذا أجمعت البشرية على أنه حرام؟ لا، فالحلال حلال إلى يوم القيامة، والحرام حرام إلى يوم القيامة. لننتبه إلى ذلك، ولتكن عقول أبنائنا وبناتها أهم لدينا من صحتهم، فنحرص على صحتهم بأخذ رأي الطبيب الواحد وإن كانت كل الأغلبية ضده، ولا نحرص بنفس المنهجية على أخلاقهم وأذواقهم وفوق كل شيء دينهم.
__________________
موقع المدونة https://warithon.wordpress.com الفيسبوك https://www.facebook.com/warithon.warithon التويتر https://twitter.com/Warithon_Blog |
أدوات الموضوع | |
|
|