![]() |
جديد المواضيع |
|
![]() |
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
![]()
في المسندِ مِن حديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ)), فَلِذَلِكَ أَقُولُ: ((جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى)) والحديث أخرجه أيضًا الترمذي والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح.
قَالَ الإِمَامُ العلامة ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تعالي وأنزلهُ الفردوسَ الأعلى مِنَ الجنة-: ((هَذا الحديثُ العظيمُ أصلٌ من أصولِ الإيمان, وينفتح به بابٌ عظيم من أبوابِ سير المرءِ بين القضاء والقدر, ومع معرفتهِ لحكمة ذلك كله, وهذا النور الذي ألقاه الله عليهم, هو الذي أحياهم وهداهم, فأصابت الفطرة منه حظها. ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم، وأَتَمَّهُ بالروح الذي ألقاه على رُسُلِهِ -عليهم الصلاة والسلام- والنور الذي أوحاهُ إليهم, فأدركَتهُ الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور, فانضاف نور الوحيِ والنبوةِ إلى نور الفطرة، نورٌ على نور, فأشرقت منه القلوب, واستنارت به الوجوه, وحَيَّت به الأرواح, وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعًا واختيارًا. فازدادت به القلوب حياةً إلي حياتها, ثم دلها ذلك النور, على نورٍ آخر, هو أعظم منه وأَجَلُّ؛ وهو نور الصفات العليا, الذي يضمحل فيه كل نورٍ سواه, فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدةً نِسْبَتُهَا إلى القلب كنسبةِ المرئيات إلى العين، ذلك لاستيلاءِ اليقين عليها، وانكشافِ حقائق الإيمان لها, حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن -تبارك وتعالى- بارزًا، وإلى استوائه عليه، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يُدَبِّرُ أمرَ الممالكِ، ويَأمُرُ ويَنْهى، ويخلُقُ ويرزُقُ، ويميتُ ويُحْيي، ويَقضِي ويُنفِّذُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويقلِّبُ الليلَ والنهارَ، ويُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، ويُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فيذهبُ بدولةٍ، ويأتي بأخرى. والرسلُ من الملائكةِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- بين صاعدٍ إليه بالأَمرِ، ونازلٍ مِن عندِهِ به، وأَوَامِرُه ومَراسِيمُهُ متعاقبةٌ على تعاقُبِ الأوقاتِ، نافذةٌ بحسبِ إرَادتهِ ومَشِيئتهِ، فما شاءَ كانَ, كَمَا شاءَ في الوقتِ الذي يشاءُ, على الوجهِ الذي يشاءُ، مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تَقَدُّمٍ ولا تأخُّرٍ، وأمرُهُ وسلطانُهُ نافِذٌ في السمواتِ وأقطارِها، وفي الأرضِ وما عليها وما تحتها، وفي البحارِ والجوِّ، وفي سائرِ أجزاءِ العَالَمِ وذرَّاتِهِ، يُقَلِّبها ويُصَرِّفها، ويُحدِثُ فيها ما يشاءُ. وقد أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسِعَ سَمْعُهُ الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبهُ عليه، بل يسمعُ ضجيجَها باختلافِ لُغَاتِها على تَفَنُّنِ حاجاتِها، فلا يَشغَلُهُ سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِطُه كثرةُ المسائلِ، ولا يتبَرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّين ذوي الحاجات. وأحاط بصرُه بجميعِ المرئياتِ، فيرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، فالغيبُ عندهُ شَهادةٌ، والسرُّ عنده عَلانيةٌ، يعلمُ السرَّ وأخفى مِنَ السرِّ؛ فالسرُّ: ما انطَوى عليه ضمير العبدِ، وخَطرَ بقلبِهِ، ولم تتحركْ به شفتاه، وأخفى من السرِّ: ما لم يخطرْ بقلبِهِ بَعْدُ، فيَعلَمُ أنه سيخطرُ بقلبِهِ كذا وكذا في وقتِ كذا وكذا. له الخلقُ والأمرُ، وله الملكُ وله الحمدُ، وله الدُّنيا والآخرةُ، وله النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسنُ، وله المُلْكُ كلُّه، وله الحمد كلُّهُ، وبيدهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليه يُرجعُ الأمرُ كلُّهُ، شملت قدرتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووصلت نعمتُهُ إلى كلِّ حيٍّ, {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ همًّا، ويكشِفُ كربًا، ويجبرُ كَسِيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهِلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حيرانًا، ويغيث لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبِعُ جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مُبْتَلَى، ويقبل تائبًا، ويجزي مُحسِنًا، وينصرُ مظلومًا، ويقصِمُ جبَّارًا، ويُقيلُ عثرَةً، ويسترُ عورةً، ويُؤَمِّن روعةً، ويرفعُ أقوامًا، ويضع آخرين. لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرفَع إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهار قبلَ عملِ الليلِ، حجابُه النورُ، لو كشفَهُ لأحرقتْ سُبُحاتُ وجههِ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه. يمينُه مَلأى، لا تَغِيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفقَ مُنذُ خلقَ الخلقَ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينهِ. قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأَزِمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، يقبضُ سماوتِه كلِّها بيدِهِ الكريمة، والأرضَ باليدِ الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا المَلِكُ، أنا المًلِكُ، أنا الذي بَدَأْتُ الدُّنيا ولم تكنْ شيئًا، وأنا الذي أُعيدُها كما بَدَأتُها. لا يتعاظمه ذنبٌ أن يَغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها, لو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإِنْسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا. ولو أنَّ أولَ خلقهِ وآخرَهم، وإِنسَّهم وجِنَّهم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم، ما نقصَ ذلك من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهل أرضِهِ، وإنسَهم وجِنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم, ورطَبهم ويابِسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوه فأعطى كلًّا منهم ما سألَ، ما نقصَ ذلك مما عِندَهُ مثقالَ ذرةٍ. ولو أنَّ أشجارَ الأرضِ كلَّها -من حين وُجدتْ إلى أن تنقضيَ الدنيا- أقلامٌ، والبحرَ وراءه سبعةُ أبحرٍ تمدُّه من بعده مِدادٌ، فكُتِبَ بتلك الأقلامِ، وذلك المِدادِ، لفنيت الأقلامُ ونفدَ المدادُ، ولم تنفدْ كلماتُ الخالقِ تباركَ وتعالى. وكيفَ تَفْنَى كلماتُه جَلَّ جلالُهُ وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية؟! والمخلوقُ له بدايةٌ ونهايةٌ، فهو أحقُّ بالفناءِ والنَّفادِ، وكيف يُفنِي المخلوقُ غيرَ المخلوق؟! هو الأولُ الذي ليسَ قبلهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعده شيءٌ، والظاهرُ الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ -تباركَ وتعالى-, أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقُّ مَن عُبد، وأحقُّ مَن حُمِد، وأولى مَن شُكِر، وأنصَرُ مَن ابتُغِي، وأرأفُ مَن مَلَك، وأجودُ مَن سُئِل، وأعفَى مَن قَدِر، وأكرم مَن قُصِد، وأعدل مَن انتَقَم, حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حِكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ. ما لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ واجبٌ ** كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ إن عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أو نُعِّمُوا ** فَبِفَضْلِهِ، وهو الكريمُ الواسِعُ هو الملكُ الذي لا شريكَ له، والفردُ فلا نِدَّ له، والغنيُّ فلا ظهيرَ له، والصمدُ فلا وَلدَ له، ولا صَاحِبةَ له، والعَليُّ فلا شبيهَ له، ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجهَهُ، وكلُّ مُلْكٍ زائِلٌ إلَّا مُلكَهُ، وكلُّ ظلٍّ قَالِصٌ إلا ظِلُّهُ، وكلُّ فضلٍ منقطعٌ إلا فَضلَه. لن يُطاعَ إلا بإذنهِ ورحمتهِ، ولن يُعصى إلا بعلمهِ وحكمتهِ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصَى فيتجاوزُ ويَغْفِرُ، كلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، أقربُ شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حالَ دون النفوسِ، وأخذَ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتبَ الآجالَ، فالقلوبُ له مُفْضِيَةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، عطاؤه كلامٌ، وعذابهُ كلامٌ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات, اضمحل عندها كل نور، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة)). فإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه, أراه في ضَوْءِ ذلك النور؛ حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد, إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان, وحقائق العبودية, وما يصححها وما يفسدها, وتفاوتت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور. قال ربنا -جل وعلا-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}. وقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}. فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور, عن حقيقة المثل الأعلى مستويًا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن؛ فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا أكبرَ من كل شيء, في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضةُ إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، ثم يَهزُّهن ثم يقول: أنا المَلِك. فالسماوات السبع في كفِّه كخَردله في كف العبد، يُحيط ولا يُحاطَ به، ويَحصُر خلقه ولا يَحصُرونَه، ويدرِكَهم ولا يدرِكُونَه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًا واحدًا ما أحاطوا به -سبحانه-. ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جَوَاد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمالُ الخلائق كلِّهم على شخصٍ واحد منهم, ثم أُعطِيَ الخلق كلهم مثلُ ذلك الجمال, لكانت نِسبَتُهُ إلى جمال الربِّ –سبحانه- دون نِسبَة سراجٍ ضعيفٍ إلى ضوء الشمس. ولو اجتمعت قُوَى الخلائق على واحدٍ منهم, ثم أُعطِيَ كل منهم مثل تلك القوة, لكانت نسبتها إلى قوته –سبحانه- دون نسبة قوة البَعوضَةِ إلى حملة العرش. ولو كان جودهم على رَجُلٍ واحدٍ, وكل الخلائق على ذلك الجود, لكانت نسبته إلى جوده –تعالي- دون نسبة قَطْرَةٍ إلى البحرِ. وكذلك عِلْمُ الخلائق إذا نُسِبَ إلى علمه, كان كنقرةِ عصفورٍ من البحر. وكذلك سائرُ صفاته :كحياته وسمعه وبصره وإرادته, فلو فُرِضَ البحر المحيطُ بالأرض مِدَادًا, تُحِيطُ به سبعة أبحر, وجميع أشجارِ الأرض شيئًا بعد شيءٍ أقلامًا؛ لَفَنِيَ ذلك المِدَادُ والأقلام, ولا تَفْنَى كلماته ولا تنفد. فهو أكبر في عِلْمِه مِن كل عَالِمٍ، وفي قدرته من كل قادرٍ، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي عُلُوِّهِ من كل عالٍ، وفي رحمته من كل رحيم. استوى على عرشه واستولى على خلقه، منفردٌ بتدبير مَمْلَكَتِهِ، فَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ،ولا إِعطَاءَ ولا مَنْعَ, ولا هُدى ولا ضَلَالَ، ولا سعادةَ ولا شَقَاوَة، ولا موتَ ولا حياة، ولا نفع ولا ضُرَّ إلا بيده، لا مالك غيره ولا مدبر سواه، لا يستقل أحدٌ معه بِمُلْكِ مثقالِ ذرةٍ في السماوات والأرض, ولا له شرِكَة في مُلْكِهَا، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فَيَخْلُفَهُ غيره، ولا يعيَا فيعينه سواه، ولا يتقدم أحدٌ بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفي من شاء. فهو أول مشاهد المعرفة، ثم يترقى منه إلى مشهدٍ فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإِلَهِيَّةِ؛ فيشهده –سبحانه- متجليًا في كماله بأمره ونهيه, ووعده ووعيده, وثوابه وعقابه, وفضله في ثوابه, فيشهد ربًّا قيومًا متكلمًا آمرًا ناهيًا، يُحِبُّ ويُبْغِضُ, ويَرْضَى ويَغْضَب، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عِبادِه الحُجَّةِ البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدى مَن يشاء نعمة منه وفضلًا، ويضل مَن يشاء حكمةً منه وعدلًا، يُنزل إليهم أوامِره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سُدًى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم حُكْمٌ وأمر في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ ولحظةٍ ولفظةٍ. وَينكشف له في هذا النور عدله وحكمته, ورحمته ولطفه, وإحسانه وبِره في شرعه وأحكامِه، وأنها أحكام ربٍّ رحيمٍ محسنٍ لطيفٍ حكيمٍ، قد بهرت حِكمته العقول وأقرت بها الفِطَر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة، وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه –سبحانه- عن النقص والمثال، وأن كل كمالٍ في الوجود فمعطيه وخالقُه أحقُّ به وأولى، وكل نقصٍ وعيبٍ فهو –سبحانه- مُنزهٌ متعالٍ عنه. فينكشف له في ضوء هذا النور, حقائق المعاد واليوم الآخر, وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهدهُ عِيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعدِه ووعيدِه، إخبار مَن كأنه قد رأى وعَايَنَ وشاهد ما أخبر به؛ فمَن أراد –سبحانه- هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكًا ولا منفذًا. فشتان بين قلبٍ يبيت عند ربه, قد قطع في سفرِه إليه بيدَاء الأكوان، وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه في داره، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرَض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزِل الأمر من عنده نافذًا كما أمر. فيُشاهِدُ المَلِكَ الحق قيومًا بنفسه، مقيمًا لكل ما سواه، غنيًّا عن كل ما سواه، وكل مَن سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويَسلبُ نعمته عن آخرين، ويعز أقوامًا، ويذل آخرين، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين. ويَشهدُه كمَا أخبَر عنه أعْلَمُ الخلق به وأصدقهم في خبره, حيث يقولُ في الحديثِ الصحيحِ ((يمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الخلق؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُغض ما فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الميزان يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ))، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق، ويُجزل العطايا، ويمُنُّ بفضله على مَن يشاء من عباده بيمينه، وباليد الأخرى الميزان, يخفض به مَن يشاء، ويرفع به مَن يشاء، عدلًا منه وحكمة، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فيشهَدُه وَحدَهُ القيومَ بأمر السموات والأرض ومَن فيهن، ليس له بوابٌ فيستأذن، ولا حاجبٌ فيُدخَل عليه، ولا وزيرٌ فيُؤتى، ولا ظَهيرٌ فيستعان به، ولا وَلِيٌّ مِن دونه فيشفع به إليه مَن أراد الوصول إليه، ولا نائبٌ عنه فَيُعَرِّفَهُ حوائج عباده، ولا معينٌ له فيعاوِنَه على قضائها، بل قد أحاط –سبحانه- بها علم، ووسعها قدرةً ورحمة، فلا تزيده كثرت الحاجات إلا جُودًا وكرمًا، ولا يشغَله منها شأنٌ عن شأن، ولا تغلطه كثرت المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين. لو اجتمع أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ ثم سألوه, فأعطى كل منهم مسألته, ما نقص ذلك مما عنده ذرةً واحدةً, إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غُمِس فيه، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم على أتقى قلب رَجُلٍ واحدٍ منهم, ما زاد ذلك في مُلْكِهِ شيئًا، ذلك بأنه الغني الجواد الماجد، فعطاؤه من كلام، وعذابه من كلام، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. ويَشهَدُهُ كما أخبر عنه أيضًا الصادق المصدوق حيث يقول: ((إِنَّ اللهَ، لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ، مَا أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)). |
![]() |
أدوات الموضوع | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
أما وجد الله أحدا أرسله غيرك | معاوية فهمي | موضوعات عامة | 0 | 2019-12-04 04:10 PM |