فَنُّ العِتَابِ مِنْ فِقْهِ الخِطَابِ
عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ[1]
هناك ألوان كثيرة وفنون شتى للتحاور والتفاهم بين الناس من ذلك لغة القول اللين، كما قال تعالى لموسى وهارون فى مخاطبة فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه44] فاللين وسيلة من وسائل الخطاب بين الناس للوصول إلى الهدف المنشود من الإقناع وغيره من مقاصد التحاور.
وهناك الشدة ورغم كونها على النقيض من اللين إلا أن لها مواضع لا بد منها، ولها ثمار ليست بمعزل عنها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم9]
وقال الشاعر[2]:
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ *** وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا *** مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى
وهناك العتاب وهو فنٌ ولونٌ من ألوان الخطاب يختص بالمتحابين وأصحاب العلاقات المترابطة والوشائج القوية، وقد يكون من الخطورة بمكان إن لم يُستخدم على الوجه الأمثل، ويُوضع فى موضعه اللائق به.
ولقد تعلم النبى صلى الله عليه وسلم من ربه -تبارك وتعالى- فقه العتاب حيث كان القرآن ينزل بالعتاب من الله -تبارك وتعالى- لخليله ومصطفاه سيد البشر صلى الله عليه وسلم ليوجهه إلى الأمثل والأوفق والأرفق والأحسن من السياسات والقرارات، عندما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون خلاف الأولى.
فمن ذلك أن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وقد أسلم قديمًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم.
فقال عبد الله: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارًا وألح عليه وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك؛ ليتمكن من مخاطبة الرهط طمعًا ورغبة في هدايتهم، وعبد الله لا يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس1-10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مَرْحَبًا بِمَنْ عَاتَبَنِي فِيْهِ رَبْيِ»[3].
قال العلماء: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالمًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغولٌ بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- عاتبه؛ حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء والمساكين؛ وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان نوعًا من المصلحة؛ لأنه بإسلام هؤلاء القوم تُسلم القبيلة كلها، إلا أن الله -تبارك وتعالى- وجهه إلى الأولى والأحسن وهو أن النظر إلى المؤمن وإن كان فقيرًا أصلح وأولى من الإقبال على الأغنياء طمعًا في إيمانهم.
فانظر إلى العتاب الرقيق فى قوله تبارك وتعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) بضمير الغيبة، تعظيمًا وإجلالاً له صلى الله عليه وسلم ولم يقل: عبست وتوليت بلفظ المخاطب، لإيهام أن من صدر عنه هذا الفعل ليس هو صلى الله عليه وسلم ، والسامع لهذه الآيات للمرة الأولى لا يعلم من هو المقصود بها، وإن علم فليس في الأسلوب شدة أو نقمة إنما توجيه للأحسن والأصوب، كما أن في التعبير بضمير المخاطب فى قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) الإيناس بعد الإيحاش، والإقبال بعد توهم الإعراض.
وهكذا يكون العتاب الرقيق باستخدم الألفاظ الرقيقة التى لا تؤثر سلبًا على نفس سامعها بحيث ينسى أنه عتاب ويتحول إلى مُدافعٍ ومجادلٍ عن موقفه لِيُثْبِتُ أنه على صواب، ولا يؤتي العتاب -في تلك الحالة- ثمرته المرجوة.
ومن ذلك أيضًا ما رواه مسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى في بدر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال67] [4]
فالنبي صلى الله عليه وسلم فى هذا الموقف آثر السلامة، وهو رأي كثير من أصحابه، ولكن الله -تبارك وتعالى- أرشده إلى الأولى من ذلك وهو الشدة فى هذا الموقف؛ لأن هؤلاء هم صناديد الكفر وكبار أهل الضلال، فالأولى معهم القتل والتنكيل بدلاً من العفو والصفح خاصة والدعوة في بداياتها وتحتاج إلى أن تظهر بمظهر القوة بين قبائل العرب، وكان هذا هدفًا لا يعدله المال، ولذا سُمي هذا اليوم بيوم الفرقان لعظمته فى تاريخ الدعوة.
فعاتبه الله بقوله: (ما كان لنبي) فالخطاب ليس موجهًا مباشرة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ولكنَّ المعنى: لا يحق لأي نبي مهما كان أن يكون فى هذا الموقف وعنده أئمة الكفر الذين حاربوه وأخرجوه ومكروا به وأرادوا قتله أن يعفو عنهم.
وهكذا يكون العتاب الرقيق الذى لا يوجه مباشرة إلى الملوم؛ حتى لا يتشاغل بالدفاع عن نفسه، وينسى فى ظل الجو شديد السخونة أن يتعلم ويفهم المراد من التوجيهات السديدة، والنصائح الرشيدة، ويفهم عن اقتناع ورضا نفس أن الأولى هو فعل ما يرشد إليه العاتب.
ولقد تعلم النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا فقه العتاب وفنه من أحاديث ومواقف الأنبياء التي قصها الله تبارك وتعالى عليه، وأعلمه بها فمن ذلك ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَزَلَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً»[5].
عاتب الله تبارك وتعالى هذا النبي الذي يقال: إنه العُزَيْر، بأنه قتل جماعة النمل لأنه لُدغ من واحدة فقط، فاستدعى الله انتباهه وقال له (فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً).
والناظر لقوله تعالى: (فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً) يجد أنها لطيفة موجهة لما هو أرفق بهذا النبي؛ حيث إن الموقف لا يستدعي الشدة فالخطب يسير، وأمة النمل مهما بلغت لا تملك من أمرها شيئًا.
وعلى هذا المنوال من الأدب الجم والفقه العميق لفن العتاب تعامل النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فى المواقف التى تحتاج إلى ذلك، وتوجيههم إلى ما هو أصلح وأولى فكان صلى الله عليه وسلم بذلك يهذب أصحابه ولا يلجئهم إلى الدفاع عن أنفسهم بل يلفت انتباههم إلى العبرة والعظة من العتاب.
ولقد حرص صلى الله عليه وسلم أن تكون الصيغ والكلمات معبرة وموحية بالحب والعطف والشفقة على محدثه؛ لتنفذ هذه النصائح والكلمات الى قلبه فيتأثر بها ويعمل بمقتضاها.
فمن ذلك ما رواه أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا [بعد غزوة حنين] فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقْنَا.
في هذا الموقف المؤثر كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يقول: أنا رسول الله؛ ويجب عليكم طاعتي فاسمعوا وأطيعوا، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل بل هذبهم بعتابه الرقيق الذي ما سمعه أحد من أهل القلوب الرقيقة إلا بكى مع بكاء الأنصار، وفهم العبرة والعظة المستهدفة في جو هادئ لهذا المقام، وهي أنه ترك الأنصار لإيمانهم وتقواهم، وتألف أناسًا سوف يكونون بعد ذلك حماة الإسلام وحصنه.
وأرسل صلى الله عليه وسلم يومًا أحد صحابته عاملاً على الصدقة فجاء حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي لي، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن صعد المنبر عشية بعد الصلاة وقال: «أَمَّا بَعْدُ فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي فَهَلَّا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا....» [6].
ورأى رجلاً آخر يغتسل فى مكان فسيح بلا إزار، ولا يستتر عن أعين الناس فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ؛ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ»[7].
وغيرها من المواقف التى تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعَرِّضُ باسم أحد من صحابته بل يقول: (ما بال أقوم يفعلون كذا)، (إذا فعل أحدكم كذا) يعاتبهم بأسلوب مهذب رقيق ليس فيه تجريح للمشاعر ولا غض من قيمة الشخص الذي اقترف خطأ، فكان صلى الله عليه وسلم مثلا حيًا للصحابة فى فقه التعامل مع الناس؛ حتى قال أنس بن مالك: «َكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُوَاجِهُ رَجُلًا فِي وَجْهِهِ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ»[8].
بل كان يتعامل مع أهله –أعني زوجاته- بهذا الفقه فمن ذلك ما قصه ربنا تبارك وتعالى فى سورة التحريم حيث قال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}[التحريم3]
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتم حفصة سرًا بتحريم العسل على نفسه (وأن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي)[9]؛ فذكرته حفصة لعائشة فأظهره الله عليه، فعرف بعضه وأعرض عن بعض.
أي: قال لها: إن الله أوحى إليَّ ما أفْشَيْتِ من السر فى تحريم العسل، وأنك أخبرت عائشة بذلك، وأعرض عن قوله: (إن أباك وأباها يكونان خليفتي على أمتي من بعدي).
وهذا التغاضي عن كثير من أخطاء الأحبة والمقربين من شيم الكرام الأخيار الذين لا يلومون أحبابهم على كل ما يفعلون أو يأتون من أخطاء ولكن يكفي التعريض ببعضها والكف عن البعض الآخر.
ويُعَدُّ هذا من قمة فقه العتاب وفنه بمكان، لا يصل إليه إلا من تأدب بآداب القرآن وتعلم من النبي العدنان صلى الله عليه وسلم .
قال الحسن: ما استقصى كريم قط.
وقال سفيان: مازال التغافل من فعل الكرام.
وعلى هذا يجب علينا أن تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم الأساليب اللطيفة فى العتاب والمحاورة الرقيقة التي تجعل المعاتَب لا يخرج عن حب معاتبه، ولا يجنح إلى الإعراض عنه بل يسمع ويطيع لأن معاتبه لا يبغي إلا صلاحه وكماله سواء فى الفعل أو القول.
أما إذا تخطى الأمر الحدود، وتعدى الحرمات فهنا يقف النبي صلى الله عليه وسلم زاجرًا أمرًا ناهيًا بشدة، ولا مجال للعتاب فى هذه اللحظة إلا الزجر والهجر، فعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبَ أَعْطِيهَا بَعِيرًا فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ»[10].
وما قاله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد بن حارثة حين أرد أن يشفع فى المرأة المخزومية التى سرقت ويريد زيدٌ أن لا تقطع يدها فغضب صلى الله عليه وسلم من الحب ابن الحب وقال له بلهجة شديدة: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» [11].
هذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه وسلم التى تبرز وتوضح ما للعتاب من قيمة حيوية فى ديننا وشريعتنا، لعلنا نعتبر بها فى عصر الجفاء والغلظة علها أن تُبَّرد أكبادنا وتطفئ نار قلوبنا وتهدئ من روعنا.