جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم الأول تمهيد بَيَّن الله - تبارك وتعالى - في مطْلع آيات سورة الحج بذلك النِّداء العظيم للناس كلهم، من المؤمنين، وأهل الكتاب، والمشركين إلى يوم القيامة؛ ليتلقَّوا الأمر بتقوى الله وخشيته، بحسب حالهم من التلبُّس بما نهى الله عنه، والتفريط فيما أمر به؛ ليسْتَبْدلوا ذلك بضده؛ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} (الحج).
أي: يا أيها الناس، احذروا عقاب الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فإنَّ ما يحدث عند قيام الساعة من أهوال، وحركة شديدة للأرض، تَتَصَدَّع منها كلُّ جوانبها - شيءٌ عظيم، لا يقدِّر قدره، ولا يبلغ كُنهه، ولا يعلم كيفيَّته إلا ربُّ العالمين. يوم ترون قيام الساعة تنسَى الوالدةُ رضيعَها، الذي ألقمته ثديها؛ لِمَا نزل بها منَ الكرْب، وتُسْقط الحامل حملها من الرُّعب، وتغيب عقول الناس، فهم كالسُّكارى من شدَّة الهَوْل والفزَع، وليسوا بسكارى منَ الخمر، ولكن شدة العذاب أَفْقدتهم عُقُولهم وإدراكهم. ثم بَيَّن - سبحانه - النِّهاية السعيدة لِمَن اتَّقى واستجاب لربِّه الرحمن، الذي أعَدَّ لعباده المؤمنين منَ النعيم المُقيم الشيءَ العظيم في دار رحمته؛ حيث قال - تبارك وتعالى -: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج: 23]. إن الله - تعالى - يُدخل أهل الإيمان والعمل الصالح جنات نعيمُها دائم، تجْري مِن تحت أشجارها الأنهار، يُزَيَّنون فيها بأساور الذهب وباللؤلؤ، ولباسهم المعتاد في الجنة الحرير، رجالاً ونساءً؛ { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24]. لقد هداهم الله في الدُّنيا إلى طيب القول، من كلمة التوحيد، وحَمْد الله، والثناء عليه، وفي الآخرة إلى حمده على حُسن العاقبة، كما هداهم من قبلُ إلى طريق الإسلام المحمود الموصل إلى الجنة. وكذلك هو الحال بحُجَّاج بيت الله الحرام، قد ساروا إلى الله بإيمان وعمل صالح زادهم، ولباسهم هو التقوى، وطيب أقوالهم وألسنتهم ذِكْر الله والدعاء، قد جدُّوا واجتهدوا؛ ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ). وهو - سبحانه - الحكيمُ الحميد الذي لا يرتضي الظُّلم في أرضه، وقد حرَّمه - تعالى - بين عباده؛ { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 114]. فإذا كان الأمر كذلك، فالويل لمن وقف في طريق عباد الرحمن السائرين إلى الله، والوافدين إلى بيته الأمين؛ { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25]. { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: فكما كان سبب استحقاق المؤمنين ذلك النعيم اتباعهم صراط الله؛ { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج: 24]، كذلك كان سبَبُ استحقاق المشركين ذلك العذَاب هو أنهم كفروا بالله، وكذبوا بما جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يمنعون غيرهم من الدخول في دين الله، ويصدون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين عن المسجد الحرام كما في عام (الحديبية). والصد عن سبيل الله ناشئ عن الكفر، وما يزال صدُّهم مستمرًّا؛ كقوله - تعالى -: { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [البقرة: 217]، وقوله - تعالى -: { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [الفتح: 25]، وقوله - تعالى -: { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } [المائدة: 2]. وفي هذا بيان لحقِّ المسلمين في المسجد الحرام، وتهويل أمْر الإلحاد فيه، والتنويه به، وتنزيهه عن أن يكونَ مأوى للشِّرْك، ورِجْس الظلْم والعُدوان. لذا جاء التأكيد بـ{ إنَّ }؛ للاهتمام به، وجاء قوله: { كَفَرُوا } بصيغة الماضي؛ لأنَّ فعلهم صار كاللقب لهم، وجاء الفعل {يصدُّون} بصيغة المضارع؛ للدلالة على تكرر ذلك منهم، وأنه دأبهم، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله - تعالى -: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]؛ أي: ومِن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله. { عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }: وسبيل الله هو الإسلام، الذي هو دين الله وسبيله الواصل إليه، وهو طريقه الذي شرعه للناس، ونهجه الذي اختاره للعباد، وقد صدّوا المسلمين عن دخول المسجد الحرام والطواف بالبيت بعد الهجرة، ومن ذلك ما صنعوه يوم الحديبية، والصد: هو المنْع، فصدهم عنه هو الذي حقَّق لهم عذاب النار، كما حقق اهتداءُ المؤمنين إليه بأن لهم نعيمَ الجنة. وخبر { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } محذوف، تقديره: نُذيقهم من عذاب أليم، دلَّ عليه قولُه في الجملة الآتية: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }. { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }، وخصَّ الصد عن المسجد الحرام بالذِّكْر؛ للاهتمام به، ولينتقل منه إلى التنويه بالمسجد الحرام، وذِكْر بنائه، وشرع الحج له من عهد إبراهيم، وهو الذي جعله الله للناس منطقة أمان ودار سلام، وواحة اطمئنان، فهو بيتُ الله الذي يتساوَى فيه عباد الله، فلا يملكه أحدٌ منهم، ولا يمتاز فيه أحدٌ منهم، فيه تُحقن الدِّماء، ويجد كل أحد فيه مأمنه ومأواه، لا تفضُّلاً مِن أحد، ولكن حقًّا يتساوى فيه الجميع؛ فإن الله جعلَه لجميع المؤمنين. والمسجد الحرام، قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره، وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجًا عنه؛ قال الله - تعالى -: { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الفتح: 25]، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الإسراء: 1]. { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء }؛ أي: للصلاة والطواف والعبادة، وهو كقوله - تعالى -: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 96]. فهم يصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفْس الأمر؛ لذلكيقول - تعالى - مُنكرًا على الكفَّار في صَدِّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام، وقضاء مناسكهم فيه، ودعواهم أنهم أولياؤه: { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [الأنفال: 34]. { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ }، ولا خلاف بين المسلمين في أنَّ الناس سواء في أداء المناسك بالمسجد الحرام وما يتبعه؛ إلاّ ما منعته الشريعة - كطواف الحائض بالكعبة - فيستوي في أحقية التعبّد به {العَاكِفُ فِيهِ}؛ أي: الملازم له في أحوال كثيرة، المقيم فيه، والمستقر في المسجد، والساكن بمكة؛ لأنَّ الساكن بمكة يعكف كثيرًا في المسجد الحرام، وفي ذكر العكوف تعريض بأنهم لا يستحقون بسكنى مكة مزية على غيرهم، وبأنهم حين يمنعون الخارجين عن مكة من الدخول للكعبة قد ظلموهم باستئثارهم بمكة. { وَالبَادِ }؛ أي: القادم إليه والبعيد عنه إذا دخله، ومنهم أهل البادية ومَن يقدم عليهم، فقد جعله الله شرعًا؛ سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك، لا فرق فيه بين المقيم فيه الحاضر، والنائي عنه البعيد الدار منه، فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. لذلك؛ يُقال للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان. وهناك من أهل العلم من قال: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب، وهذا الرأي مرْدُود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانتْ للجميع حين كان المكان حُرًّا يبني فيه مَن أراد، أمَّا بعد أن بَنَى بيتًا وسكنه، أصبح مكينًا فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وإرادته. ويؤيده قول الشافعي - رحمه الله -: لو كان الأمر كذلك، لما قال - سبحانه - في المهاجرين: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } [الحشر: 8]، فنَسب الديار إليهم، ولَمَا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل مكة: ( وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟ )، وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها. { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }: والإلحاد في اللغة أصله: الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: الانحراف عن الاستقامة وسواء الأمور، وأن يحيد عن دِين الله الذي شرَعه، ويعمُّ ذلك كلَّ ميلٍ وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولاً أوليًّا الكفرُ بالله، والشركُ به في الحَرَم، وفعلُ شيءٍ مما حرَّمه، وتركُ شيء مما أوجبه، ومن أعظم ذلك: انتهاكُ حُرُمات الحرم. والباء في "بإلحاد" للتوكيد؛ أي: من يُرد إلحادًا وبُعدًا عن الحق والاستقامة، وذلك صدهم عن زيارته. وقوله: { بِظُلْمٍ }؛ أي: عامدًا قاصدًا أنه ظلم، ليس بمتأوّل، وعن ابن عباس: هو التعمُّد، وعنه أيضًا: { بِظُلْمٍ }: بشرك، وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة، وغير واحد، وقال العوفي: عن ابن عباس: { بِظُلْمٍ }: هو أن تَستحلَّ من الحرم ما حَرَّم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فَعَلَ ذلك، فقد وجب له العذابُ الأليم. وقال مجاهد: { بِظُلْمٍ }: يعمل فيه عملاً سيئًا. والظلم يُطلَق على الإشراك، وعلى المعاصي؛ لأنها ظلم للنفس، والباء في "بظلم" للملابسة، فالظلم: الإشراك؛ لأن المقصود تهديدُ المشركين الذين حمَلَهم الإشراكُ على مناوأة المسلمين، ومنعِهم من زيارة المسجد الحرام. والمراد: من يرد في المسجد الحرام الميْلَ عن الحق ظلمًا، فيَعْصِ الله فيه، نُذِقْه مِن عذابٍ أليم موجع. فالمُلحد في المسجد الحرام قد خالف بإلحاده فيه ما أراده الله من تطهيره، حتى أمر ببنائه، والتخلُّص من ذلك إلى إثبات ظلم المشركين، وكفرانهم نعمةَ الله في إقامة المسجد الحرام وتشريع الحج. بل جاء المعنى على مجرد الهمِّ فيه، وهذا من دقائق التعبير؛ ففيه التهديد والوعيد على مجرد الإرادة؛ زيادةً في التحذير، ومبالغة في التوكيد؛ حيث قال - تعالى -: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } [الحج: 25]؛ أي: يَهُمّ فيه بأمرٍ فظيع من المعاصي الكبار، فمجردُ إرادة الظلم والإلحاد في الحرم موجبٌ للعذاب، وإن كان غيره لا يُعاقَب العبدُ عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظمَ الظلم، من الكفر والشرك، والصدِّ عن سبيله، ومنعِ من يريده بزيارة؟! فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟! وفي هذه الآية الكريمة: وجوبُ احترام الحرم، وشدةُ تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها. وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر، إذا كان عازمًا عليه، وإن لم يوقعْه، كما جاء عن ابن مسعود في قوله: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }، قال: لو أن رَجُلاً أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبينَ، أذاقه الله من العذاب الأليم. وقال سعيد بن جُبَير: شتم الخادم ظلمٌ فما فوقَه، وقيل: احتكار الطعام فيه، وقيل غير ذلك. وقيل: المراد: من لجأ إلى الحرم بإلحاد؛ يعني: بميل عن الإسلام. وهذه الآثار، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد، ولكنْ هُو أعم من ذلك؛ بل فيها تنبيهٌ على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما همَّ أصحاب الفيل بتخريب البيت، أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} (الفيل)؛ أي: دمَّرهم وجعلهم عِبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يغزو هذا البيتَ جيشٌ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، خُسِف بأولهم وآخرهم ) الحديث. وفي الآية أيضًا بيانٌ لشناعة ما عليه المشركون الكافرون بربِّهم، وأنهم جمعوا بين الكفْر بالله ورسوله، وبين الصدِّ عن سبيل الله، ومنعِ الناس من الإيمان، والصد أيضًا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكًا لهم ولا لآبائهم؛ بل الناس فيه سواء: المقيم فيه، والطارئ عليه؛ بل صَدوا عنه أفضل الخلق محمدًا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام - من حرمته، واحترامه، وعظمته -: أن من يرد فيه بإلحاد بظلم، نذقْه من عذاب أليم. وكلمة "حرام" يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه، وكلمة ( الحَرَام ) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام، وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام، ثم الشهر الحرام، الذي قال الله فيه: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة: 217]، وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمةٍ أرادها الخالق - سبحانه - لأنه رَبٌّ رحيم بخَلْقه، يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدِّ من غرورهم. لذلك جعل الله - سبحانه - لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمةً؛ لتكون ستارًا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة، وكل حَدَث يحتاج إلى زمان، وإلى مكان، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرتْ بينهم حربٌ، جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيفَ من قبضة القوي دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هَزَّ رأسه قائلاً: لولا الشهر الحرام، كنت فعلتُ بهم كذا وكذا. فهذه إذًا رحمةٌ من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها، ويَحْقِن دماءهم. فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه، يستريحون من الحرب، فيدركون لذَّة السلام، وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار الحرب يجُرُّ حربًا، ولذةُ السلام، وراحة الأمن، والشعور بهدوء الحياة، تَجُرُّ مَيْلاً للتصالح وفضِّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية. والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائرُ مركزُها بيتُ الله الحرام، وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام، وهي مكة، ثم المشعر الحرام، الذي يأخذ جزءًا من الزمن فقط في أيام الحج. أما الكعبة، فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء، فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن، فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض، أو صعدْتَ في طبقات السماء. إذًا؛ فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟! إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله. وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لكن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله (البيت الحرام) هو القِبْلة التي تتَّجه إليها كل بيوت الله في الأرض. { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }: و{ مِن } في قوله: { مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } للتوكيد؛ أي: نذقه عذابًا من عذاب أليم. فإنهم سيذوقون العذاب المؤلم الشديد الموجع بأمرٍ من الله - عز وجل - وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم، شرابًا كان أو طعامًا، إلا أنه يتعدَّى إلى كل ما يحس، ولو لم يكن مطعومًا أو مشروبًا؛ قال - عز وجل -: { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان: 49]؛ أي: ذق الإهانة والمذلَّة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولكن بالإحساس؛ فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق، وهذا اللون من إذاقة الذلِّ والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجردُ نموذج بسيط لشدة عقاب الله، وعذاب الآخرة سيكون مهولاً، والعذاب هو إيلام الحس. (يتبع) عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
#2
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج(2)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم الثاني يقول تعالى: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [الحج: 26].
أصل التبوُّء من المباءة: وهي منزل القوم في كلِّ موضع، فإنَّ المرءَ يذهب لعمله ومصالحه، ثم يبوء إلى منزله ويعود إليه، والتبوِئَة: الإسكان، تقول العربُ: بوَّأت له منزلاً، بمعنى: هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه؛ كقوله - تعالى -: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } [النحل: 41]، وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا } [العنكبوت: 58]، ومنه قول القائل: كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا فالله - جل وعلا - أرشد الخليلَ - عليه السَّلام - إلى مكانِ البيت، وأَذِنَ له في بنائه، وجعل قسمًا من ذريته من سكانه؛ كما في قوله - تعالى -: { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 56]. { مَكَانَ الْبَيْتِ }، والمكان: يطلق على الساحة من الأرض، والمكان غير المكين، المكان: هو البقعة التي يقع فيه، ويَحِلُّ به المكين، فأرض هذا المسجد مكان، والبناء القائم على هذه الأرض يُسمَّى مكينًا في هذا المكان. وعلى هذا؛ فقد دَلَّ اللهُ إبراهيم - عليه السَّلام - على المكان، الذي سيأمره بإقامة البيت عليه. وبعض أهل العلم يذهب إلى أنَّ إبراهيم - عليه السَّلام - هو أول مَنْ بنى البيت. وهناك من قال: بوَّأ لإبراهيم مكان البيت؛ يعني: بيَّنه له، وأنه كان مَبنِيًّا، وأنَّ قوله: { مَكَانَ الْبَيْتِ } يدُلُّ على أن له مكانًا سابقًا، كان معروفًا، لكنه اندرس زمن طوفان نوح؛ قال تعالى: { إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37]. ومعلوم أنَّ إسماعيلَ قد شارك أباه وساعده في البناء لَمَّا شَبَّ، وأصبح لديه القُدرة على معاونة أبيه، أمَّا الإسكان، فكان وإسماعيل ما يزال رضيعًا، وقوله - تعالى -: { عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } [إبراهيم: 37] يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيلُ أنْ يساعد أباه في بناية البيت، إذًا هذا دليل على أنَّ البيت كان موجودًا قبل إبراهيم. كذلك قوله - تعالى -: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 96]. فالبيت وُضِع للناس، وآدم من الناس، ثم ذُرِّيته إلى أن تقومَ الساعة، فلا بُدَّ أن يكون وُضِع لآدم أيضًا، فيقال بأنَّ البيت وُضِع حتى قبل آدم، وأن الملائكة هي التي وضعتْ البيت أولاً، ثم طمسَ الطوفانُ معالِمَ البيت، فدلَّ الله إبراهيمَ بوحي منه على مكان البيت، وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي؛ قال تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127]، قيل: أرسل الله له سحابة، فاستَقَرَّت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفر الخليلُ وابنه عن الأساس، فظهر لهما فبنياه عليه، وقيل: جاءت ريح كنست ما فوق الأساس، حتى ظهر الأساس الأول. والمعنى: أي: واذكر - أيها النبي - ذلك الوقت العظيم؛ إذ بَيَّنا لإبراهيم الخليل - عليه السَّلام - مكانَ البيت، وهيَّأناه له، وقد كان غير معروف؛ ليكونَ ذلك البيت مأوى لإقامة شعائر الدين، ورحابًا للطائفين به، والقائمين المصلين عنده، وأمرناه ببنائه على تقوى من الله وتوحيده، وتطهيره من الكفر والبدع والنجاسات، فكان أصل الدين هو نفي الإشراك بالله، فعلم أنَّ البيت جعل مَعْلَمًا للتوحيد؛ لذلك قال - جل وعلا -: { أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } [الحج: 26]؛ أي: لا تشرك بي شيئًا من الشرك، لا قليلاً، ولا كثيرًا. وقال: { شَيْئًا }؛ ليشملَ النهيُ كُلَّ ألوان الشرك - أيًّا كانت صورته - شجرًا، أو حجرًا، أو وثنًا، أو نجومًا، أو كواكبَ. والمراد: طَهِّر هذا المكانَ من كل ما يُشعِر بالشِّرك، فهذه هي البداية الصَّحيحة لإقامة بيت الله. وكانت قبيلة جرهم تضعُ عند البيت الأصنام تعبدها من دون الله، وكذلك كانت الأصنام عند الكعبة حتى عام الفتح، فطهَّرها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أنجاس الأوثان وأقذارها بأمر الله؛ حيث قال: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 123]. { وطهر بيتي } التطهير: هو التنزيه والنَّقاء عن كل خبيث. معنويًّا: من الشرك والفواحش والمعاصي، أو ظلم الناس وبثِّ الخصال الذميمة. وحسِّيًّا: من الأقذار والأنجاس والأدناس، والأصوات اللاغية والمرتفعة، التي تشوش المتعبدين بالصلاة والطواف ونحوها، وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة { وطهر بيتي } فيه تكريم وتشريف للبيت، فهو بيتُ الله وحْدَه دون سواه. لذا؛ أضافه الرَّحمن إلى نفسه؛ لشَرَفِه، وفضله، ولتعظم مَحبته في القلوب، وتنصب إليه الأفئدة من كلِّ جانب، وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه؛ لكونه بيتَ الرب للطائفين به والعاكفين عنده، المقيمين على عبادة ربِّهم من ذكر ودعاء، وقراءة وتعليم، وغير ذلك من أنواع القرب. { لِلطَّائِفِينَ }، وقدَّم الطواف على الاعتكاف والصَّلاة؛ لاختصاصِه بهذا البيت، والطَّواف عبادة قديمة، وهو أخصُّ العبادات عند البيت، فإنَّه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها، وهو المشي حول الكعبة، وقد كان أهل الجاهلية يطوفون حول أصنامهم كما يطوفون بالكعبة. ولذا؛ يبدأ الحاج أعمالَه بالطواف، سواء طواف القدوم - والذي هو سنة في حق المفرد والقارن - أو طواف العُمرة للمتمتع. " والْقَائِمِينَ "؛ أي: المقيمين المعتكفين فيه للعبادة؛ كما في قوله: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة: 125]. وقيل: القائمون في الصلاة؛ ولهذا قال: { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }، فقرن الطواف بالصلاة؛ لأنهما لا يشرعان إلا مُختصين بالبيت، فالطواف عنده، والصَّلاة إليه، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب، وفي نافلة السفر. وقيل: هم الدَّاعون تُجاه الكعبة، ومنه سمي مقام إبراهيم، وهو مكان قيامه للدعاء، فكان الملتزم موضعًا للدعاء. قال زيد بن عَمرو بن نُفيل: عُذْتُ بِمَنْ عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ * مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهْوَ قَائِمُ { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }؛ أي: المصلين، فالركَّع: جمع راكع، والسجود: جمع سَاجد، مثل: الرقود، والقعود. وعبَّر عن الصَّلاة بالرُّكوع والسجود؛ لأنَّهما أظهرُ أعمال الصلاة التي هي عمود الدين، وأعظم العبادات بعد التوحيد؛ لذا خَصَّها الخليل بالذكر حين أسكنَ ذُرِّيته عند البيت، ودعا ربه، فقال: { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ } [إبراهيم: 37]. والمراد: طهِّره لهؤلاء الفُضلاء، الذين يعبدون الله وَحْده لا شريك له، وهمهم طاعة مولاهم وخدمته، والتقرُّب إليه عند بيته، فهؤلاء لهم الحق، ولهم الإكرام، ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم؛ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222]، كما أنَّ ( الطهور شطر الإيمان )؛ رواه مسلم، وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ( من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تَخرج من تحت أظفاره )؛ صححه الألباني. وفي الآية: تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به في البقعة التي أسِّسَتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحْده لا شريك له؛ كما ثبت في الصحيح عن أبي ذر قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وُضعَ أول؟ قال: ( المسجد الحرام )، قلت: ثم أي؟ قال: ( بيت المقدس )، قلت: كم بينهما؟ قال: ( أربعون سنة )، وقد سبق قول الله - تعالى -: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم ...(97)} (آل عمران). { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } [الحج: 27]. { وأذِّن } عطف على { وطهر بيتي }، وفيه إشارة إلى أنَّ من إكرام الزَّائر تنظيفَ المنزل، وأنَّ ذلك يكون قبل نزول الزَّائر بالمكان، ومنه قوله - تعالى -: { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } [التوبة: 3]. والتأذين: رفع الصوت للإعلام بشيء، وأوَّل وسائل العلم السماع بالأذن، ومن الأذن أُخذ الأَذان الذي هو الإعلام بدخول الوقت؛ إعلانًا وتأكيدًا للشروع في عبادة الله وطاعته والاتصال بالمعبود - تبارك وتعالى - من خلال شعيرة الصلاة، ومنه قوله - تعالى -: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم: 7]؛ أي: أَعْلَمَ. وأذَّن بما فيه من مضاعفة الحروف مُشْعِر بتكرير الفعل؛ أي: أكثر الإخبار بالشيء، والكثرة تحصل بالتَّكرار وبرفع الصوت القائم مقام التكرار. { فِي النَّاسِ }: والناس يعمُّ كل البشر؛ أي: كل ما أمكنه أن يبلغ إليه ذلك. { بِالْحَجِّ }، والعرب تقول: حج بنو فلان فلانًا: إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردُّد عليه. والمراد بالحجِّ: القصد إلى بيت الله، وكثرة الاختلاف إليه، والتردُّد عليه، وصار لفظ الحجِّ علمًا بالغلبة على الحضور إلى المسجد الحرام لأداء المناسك. ومن حكمة مشروعِيَّته: تلقِّي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الذي أقيم لذلك؛ حتى يرسخ معنى التوحيد في النفوس؛ لأنَّ للنفوس ميلاً إلى المحسوسات ليتقوى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس، فهذه أصل في سنَّة المؤثرات لأهل المقصد النافع. " يأتوك " بضمير خطاب إبراهيم؛ دلالة على أنه كان يَحضر موسم الحجِّ في كل عام؛ ليبلِّغ الناس التوحيد وقواعد الحنيفية. كما أنَّ جملة " يأتوك " جواب للأمر، فدَلَّ على أنَّ الله ضمن له استجابة ندائه. روي أن إبراهيم لما أمره الله بذلك، اعتلى جبلَ أبي قيس، وجعل أصبعيه في أذنيه ونادى: "إنَّ الله كتب عليكم الحجَّ فْحُجُّوا"، وذلك أقصى استطاعته في امتثال الأمر بالتأذين. { رجالاً }: جمع راجل، وهو ضد الراكب. { وعلى كل ضامر }: الضامر: الخفيف اللحم من السَّيْر والأعمال لا من الهُزال، والضمور من محاسن الرواحل؛ لأنه يعينها على السير والحركة، و" كل " مستعملة في الكثرة؛ أي: وعلى رواحل كثيرة؛ كقوله - تعالى -: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [النمل: 23]، والمقصود: استيعاب أحوال الآتين؛ تحقيقًا للوعد بتيسير الإتيان المشار إليه؛ أي: يأتيك من لهم رواحل ومن يَمشون على أرجلهم. ومن العلماء من ذهب إلى أن الحج ماشيًا - لمن قدر عليه - أفضلُ من الحج راكبًا؛ لأنه قدَّمهم في الذِّكر، فدلَّ على الاهتمام بهم، وقوة هممهم، وشدة عزمهم، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبًا أفضل؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه حج راكبًا، مع كمال قوَّته - عليه السلام. ولكنْ في تقديم المشاة " رجالاً " نوعٌ من المواساة، وجبر الخاطر، ومراعاة للنفوس، سواء كان الماشي فقيرًا، أم قادرًا؛ لكنه آثر التعبَ والمشقَّة والنَّصَب. ثم قال: { يَأْتِينَ }، وإنما أسند الإتيان إلى الرواحل دون الناس، فلم يقل: يأتون؛ لأنَّ الرواحل هي سبب إتيان الناس من بُعدٍ لمن لا يستطيع السفر على رِجْليه، وفيه تشريف لها بأنْ جعلها مشاركة للحجيج في الإتيان إلى البيت. أو أن المعنى: يأتوك جماعاتٍ، فجرى عليهم الفعل بضمير التأنيث؛ ليتضمن زيادة التعجب من تيسير الحج حتى على المشاة، وقد تشاهد في طريق الحج جماعاتٍ بين مكة والمدينة يمشون رجالاً بأولادهم وأزوادهم، وكذلك يقطعون المسافات بين مكة وبلادهم. { مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }، والفجُّ: الشقُّ بين جبلين تسير فيه الركاب، فغلب الفجُّ على الطريق؛ لأن أكثر الطرق المؤدية إلى مكة تُسلك بين الجبال؛ كما قال: { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً } [الأنبياء: 31]، والعميق: البعيد إلى أسفل؛ لأن العمق البعد في القعر، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار؛ { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37]، والمراد: وأعلِمْ - يا إبراهيم - الناسَ بوجوب الحج عليهم، وادْعُهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، وبلِّغ دانيَهم وقاصيَهم فرضَه وفضيلته، فإنك إذا دعوتَهم يأتونك على مختلف أحوالهم، حجَّاجًا وعمَّارًا، مشاةً على أرجلهم من الشوق، وركبانًا على كل ضامر من الإبل، تقطع المفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن. جاء في الخبر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناسَ وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم قد اتَّخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إن الجبال تواضعتْ حتى بلغ الصوتُ أرجاءَ الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حَجَرٍ ومَدَر وشجر، ومَن كَتَبَ الله أنه يحج إلى يوم القيامة: "لبيك اللهم لبيك"؛ أي: إجابة لك بعد إجابة، وإقامة على طاعتك دائمة، مجيبين لذلك النداء الذي هو نداء الله الذي أمر إبراهيم أن ينادي به. وقد حصل ما وَعَدَ اللهُ به، أتاه الناس رجالاً وركبانًا من مشارق الأرض ومغاربها، مقبِلين قد رفعوا أصواتَهم بالتلبية، وجرَّدوا أبدانَهم من لباسهم المعتاد، وارتدَوْا أردية خاصة تشبه أكفان الموتى، واستعدُّوا للأعمال الصالحة، مجيبين لتلك الدعوة، وجاؤوا لعبادة الله - سبحانه وتعالى - فهذه هي الحكمة في جعل هذه المواقيت، ولما كانت مكة في وسط القرى؛ سمَّاها الله - تعالى - أمَّ القرى؛ قال - تعالى -: { وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام: 92]، وكان الناس يأتونها من كلِّ الجهات الأربع، من الغرب والشرق، ومن الشمال والجنوب، فجعل لهم مكانًا يستعدون فيه، فالبيتُ بيت الله، والخَلْقُ جميعًا خَلْقُ الله. وفي الآية درس بليغ وعظيم للدعاة المصلحين: فحينما أمَرَ الله إبراهيمَ بالأذان، لم يكُن حول البيت غيرُ إبراهيم وولده وزوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ ومَنْ سيستمع في صحراءَ واسعةٍ شاسعة ووادٍ غيرِ مسكون؟ فناداه ربُّه: "يا إبراهيم، عليك الأذان، وعلينا البلاغ". فمهمة الداعية هي تبليغ الحق والدعوة إلى الهدى؛ قال الله – تعالى -: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النور: 54]. وعلى الله إيصال الخير إلى كل الناس، في كل زمان، وفي كل مكان؛ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17]. جاء في الأثر: فَمنْ أجاب ولَبَّى: (لبيك اللهم لبيك)، كُتِبَتْ له حجة، ومَنْ لبَّى مرتين كُتِبتْ له حجَّتان، وهكذا. وعند التأمل في أركان الإسلام: الشهادتان (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج - سيجد العبد أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه وإنْ لم يكُن مستطيعًا له، فتراه يوفِّر ويقتصد حتى من قُوتِه، وربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، ولا يحدث هذا ولا يتكلَّفه الإنسان إلا في هذه الفريضة، لماذا؟ قالوا: لأن الله - تعالى - أَمَرَ بهذه الفريضة، وحكم فيها بقوله: { يَأْتُوكَ }، وهكذا تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، وتتحرَّق شَوْقًا إليه، وكأن شيئًا يجذبها لأداء هذه الفريضة، وكأن قوة خارجة عن الناس تجذبهم إلى بيت الله الحرام، { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37]، تهوي وتأتي دون اختيار، من الهُويِّ؛ أي: السقوط، وهو أمرٌ لا يملكه إنسان. وما يزال وعْدُ الله يتحقَّق منذ إبراهيم - عليه السلام - إلى اليوم والغد، وما تزال أفئدةٌ من الناس تهوي إلى البيت الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به، الغني القادر الذي يجد وسيلة الركوب، والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة؛ تلبيةً لدعوة الله التي أذَّن بها إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف الأعوام. وفي الآية دليل على وجوب الحج على هذه الأمَّة، وذلك بالشروط المعلومة، وهي: العقل، والبلوغ، والإسلام، والحرية، والاستطاعة؛ كما دل عليه قوله – تعالى -: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [آل عمران: 97]، وقوله - تعالى -: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة: 196]. وأما السُّنة، فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خطبَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحجَّ، فحجُّوا )، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لو قلتُ: نعم، لوجبتْ، ولما استطعتم )، ثم قال: ( ذروني ما تَرَكْتُكُم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ، فدَعُوه )؛ رواه مسلم، وحديث ابن عمر المتفق عليه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان )؛ رواه البخاري. وجاء في فضل الحج قوله - تعالى -: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 158]. وقد وردتْ أيضا أحاديثُ كثيرةٌ في فضل الحج والترغيب فيه، فمن ذلك حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: ( إيمانٌ بالله ورسوله )، قيل: ثم ماذا؟ قال: ( الجهادُ في سبيل الله )، قيل: ثم ماذا؟ قال: ( حجٌّ مبرور )؛ متفق عليه. وعنه - رضي الله عنه - أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( من حجَّ فلم يرفثْ ولم يفسق، رجع كيومَ ولدتْه أمُّه )؛ متفق عليه. وعنه أيضًا - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )؛ متفق عليه. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قلتُ: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: ( لكن أفضل من الجهاد، حج مبرور )؛ رواه البخاري. وعنها أيضًا - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ )؛ رواه مسلم. (يتبع) عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
#3
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج(3)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم الثالث يقول الله - تعالى -: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }(الحج: 28).
{ لِيَشهدوا }؛ أي: ليحضروا فيُحصِّلوا منافع لهم؛ إذ يحصِّل كلُّ واحد ما فيه نفعه من مغفرة الذنوب، والثواب على أداء المناسك وفعل الطاعات، والتكَسُّبِ في التجارات، وحصول التعارف والتلاقي، وتحقيق الأُخُوَّة في الدين والإيمان، واجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد؛ ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه، ولأنَّ في الاجتماع صلاحًا في الدنيا بالتعارف والتعامل. وتنكير " منافع " للتعظيم والمراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأنَّ في مَجمع الحجِّ فوائد جمَّة للناس ولأفرادهم، من الثَّواب والمغفرة لكل حاج ولمجتمعهم. قال ابن عباس: أما منافع الآخرة، فرضوان الله، وأمَّا منافع الدُّنيا فما يُصيبون من منافع البُدْن والربح والتجارات؛ كقوله: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }(البقرة: 198). ومن تلك المنافع ما يلي: • أن الحاجَّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة يُجري عملية صَقْل خاصة، تُحوِّله إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم، ويكون أهْلاً لرؤية بيت الله والطواف به، فيُصلح من نفسه ما كان فاسدًا، وينتهي عَمَّا كان يقع فيه من معصية الله، ويُصلِح ما بينه وبين الناس. • ومن الإعداد للحج أنْ يتعلّم الحاجُّ ما له وما عليه، ويتأدب بآداب الحجِّ، فيعرف محظوراته وما يحرُم عليه، وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملابسه التي يزهو بها، ومكانته التي يفتخر بها بين الناس، وكيف أن الإحرام يُسوِّي بين الجميع. • ويتأدب مع نفسه فلا يُفكِّر في معصية، ولا تمتدُّ يده حتى على شعرة من شعره، أو ظُفْر من أظافره، ولا يقْربُ طيبًا. ويتأدَّب الحاج مع الحيوان، فلا يصيده ولا يقتله، ومع النبات فلا يقطع شجرًا. • إنَّ الحج التزام وانضباط يفوق أيَّ انضباط يعرفه أهلُ الدنيا في حركة حياتهم، ففي الحج ترى هذا الإنسان السيد الأعلى لكل المخلوقات، كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته! وكم هي طمأنينة النفس البشرية حين تُقبِّل حجرًا وهي راضية خاضعة! • وكل أعمال الحج مَصحوبة بذكر الله وتلبيته، فَمَا من عمل يُؤدِّيه الحاجُّ إلا ويقول: لبيك اللهم لبيك، وتارة مكبِّرًا: "الله أكبر"، ذاكرًا لله، مستغفرًا لذنبه، تاليًا لكتاب الله، حامدًا وموحدًا لربه تعالى. • ومن المنافع ما يَتناول الهدي، فالتاجرُ ينتفع ببيع الهدي، والمشتري ينتفع بأداء النسك، والمربِّي الذي ربَّى هذا الهَدْي، والجزار الذي ذبحه، والفقير الذي أكل منه. • كما أنَّ الحج موسم تجارة وموسم عبادة، ومؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدُّنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة. • أصحاب السلع والتِّجارة يجدون في موسم الحج سوقًا رائجة؛ حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمراتُ كلِّ شيء من أطراف الأرض، ويقدُم الحجيج من كل فجٍّ ومن كلِّ قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتَّى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد، فهو موسم تجارة ومعرض نتاج؛ وسوق عالمية تقام في كل عام. وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تَستشعر قُربها من الله في بيته الحرام، وهي ترف حول هذا البيت، وتستروح الذكريات التي تحوم عليه، وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد: طيف إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهو يستودع الله فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربِّه: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }(إبراهيم: 37). وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحَرَّة المتلهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصَّفا والمروة، وقد أنهكها العطش، وهَدَّها الجهد، وأضناها الإشفاق على الطفل، ثم ترجع في الجولة السابعة وقد حطمها اليأس؛ لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء، وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب. وطيف إبراهيم - عليه السلام - وهو يرى الرؤيا، فلا يتردَّد في التضحية بفلذة كبده، ويَمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }(الصافات: 102)، فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل - عليه السلام -: { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } (الصافات: 102) ، وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء: { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}(الصافات). وطيف إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - يرفعان القواعد من البيت، في إنابة وخشوع؛ { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}(البقرة). والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل؛ { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ }(الحج: 78)، ويَجدون محورهم الذي يشدهم جميعًا إليه، هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعًا ويلتقون عليها جميعًا، ويَجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان. ويَجدون قوتهم قوة التجمع والتوحد والترابُط الذي يضم الملايين، الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد، راية العقيدة والتوحيد. وهو مؤتمر للتعارُف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادُل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مَرَّة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة في أنسب مكان، وأنسب زمان؛ { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ }(الحج: 28). وخُص من المنافع أن يذكروا اسمَ الله في أيام معلومات على ذَبْح ما يتقربون به من الإبل والبقر والغنم، كما فصلها - تعالى - في سورة الأنعام، وأنَّها { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }(الأنعام: 143). والقُرآن يقدِّم ذكرَ اسم الله المصاحب لنحر الذبائح؛ لأنَّ الجو جو عبادة، ولأن المقصود من النحر هو التقرُّب إلى الله، ومن ثم فإنَّ أظهر ما يبرز في عملية النَّحر هو ذكر اسم الله على الذبيحة؛ كما قال تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)}(الكوثر). والنحر ذكرى لفداء إسماعيل - عليه السلام - وآية من آيات الله، وطاعة من طاعات عبديه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - فوق ما هو صدقة، وقربى لله بإطعام الفقراء، لا سِيَّما في تلك الأيام المباركات. وأدمج في هذا الحكم الامتنان بأنَّ الله رزقهم تلك الأنعام، فقال: { عَلَى مَا رَزَقَهُم }، وفي هذا تعريض بطلب الشكر على هذا الرزق بالإخلاص لله في العبادة، والأكل من هذه الذبائح استحبابًا، وإطعام المحاويج من عباد الله من لحومها، وفي ذلك سدٌّ لحاجة الفقراء بتزويدهم ما يكفيهم لعامهم؛ ولذلك فرَّع عليه قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}(الحج: 28). { فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } هي التي أقسم الله بها في قوله: { وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}(الفجر)، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الأيام المعلومات أيام العشر، وهي أفضل الأيام عند الله، وكان - صلَّى الله عليه وسلم - يصوم هذه العشر. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام )؛ يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ( ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجعْ من ذلك بشيء )؛ رواه البخاري، وأبو داود، واللفظ له، وصححه الألباني. قال البخاري: وكان ابنُ عمر، وأبو هريرة يَخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيُكبِّران ويكبر الناس بتكبيرهما، وهي تشتمل على يوم عرفة، والذي جاء فيه عن أبي قتادة، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم عرفة، فقال: ( أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية )؛ رواه مسلم. وتشتمل أيضًا على يوم النَّحر الذي هو يوم الحج الأكبر؛ لذلك كانت أيام العشر أفضلَ أيام السنة على الإطلاق، كما أنَّ ليالي عشر رمضان الأخيرة هي أفضلُ ليالي العام؛ جمعًا بين الأدلة. ويشرع في هذه الأيام المباركات الإكثار من الأعمال الصالحات، من الصيام والصَّلاة والصدقة والتكبير، وأعظم ذلك كله حج بيت الله العتيق؛ استجابة لله، وشكرًا على تلك المنح والفيوض الكريمة. وقد عدل السياقُ عن الغيبة الواقعة في ضمائر؛ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ...}، إلى الخطاب بقوله: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا } على طريقة الالتفات؛ تعريضًا بالرد على أهل الجاهلية؛ إذ كانوا يَمنعون الأكل من الهدايا، ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ }(الحج: 29). فهم مأمورون أن يأكلوا مِن هذه الذبائح استحبابًا، ويُطعموا منها الفقير الذي اشتد فقره؛ كما ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببُضْعَة فتطبخ، ثم أكل من لحمها، وحسا من مرقها. فالسنة أن يأكل المسلمُ الثلث، وثلثٌ يهديه، وثلثٌ يتصدق به؛ لقوله في الآية الأخرى: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ }(الحج: 36). ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يُشعر الفقراء أنَّها طيبة كريمة. والبائس: المسكين المضطر الذي أصابه البؤس، وهو ضيق المال، ويبدو على مِحْنته وشكله وزِيِّه أنه فقير مُحتاج، وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى، وعن ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير: المتعفف الذي تكُون ثيابه نقيَّة ووجهه وجه غني، وإنَّما ذكر لفظ البائس زيادة على الفقير؛ لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس. وهؤلاء الفقراء لا يلتفت الناسُ إليهم، وربَّما لا يعلمون حالهم وحاجتهم، وقد قال الله فيهم: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا...}(البقرة: 273). ومن رحمة الله بالفقراء أنْ جعل الأغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذَّبائح ويشترونها، ويذهبون لمكان الذبح، ويتحمَّلون مَشَقَّة هذا كله، ثم يبحثون عن الفقير؛ ليعطوه وهو جالس في مكانه مُستريحًا، يأتيه رِزْقه من فَضْل الله سهلاً وميسَّرًا. ومن شرف الفقير أنْ جعله الله رُكنًا من أركان إسلام الغنيِّ؛ أي: في فريضة الزكاة. وبالنحر ينتهي الإحرام، فيحل للحاج حلقُ شعره أو تقصيره، ونتف شعر الإبط، وقص الأظفار، والاستحمام، مما كان ممنوعًا عليه في فترة الإحرام. (يتبع) عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
#4
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج(4)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم الرابع يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ (الحج: 29).
التفث: هو الوسخ والدرَن. قال نفطويه: سألت أعرابيًا: ما معنى قوله: ﴿ ثم ليقضوا تفثهم ﴾؟ فقال: ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل: ما أتفثك، أي: ما أدرَنَك. قال العلماء: التَّفَث يشمل كل ما يَحْرم على المُحْرِم من قصِّ الأظفار، والأخذ من الشارب وشعر الإبط. وأضاف بعض العلماء: ورمي الجمار والحلق، والتقصير، والذبح. والمعنى: ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم، وذلك بإزالة ما تراكم مِن الوَسَخ والأدران في أبدانهم، والتي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام، حيث يمكث الحاجُّ أيام الحج مُحْرِمًا لا يتطيب، ولا يأخذ شيئًا من شعره أو أظافره، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث، ويزيل هذه الأدران بالتحلُّل من الإحرام، وفِعْل ما كان محظورًا عليه. وفي الآية دلالة على أن الحلق وقص الأظافر ونحوه ينبغي أن يكون بعد النحر، كما قال تعالى: ﴿ ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ (البقرة: 196)، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: ( اذبح ولا حرج ) رواه البخاري ومسلم. ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾: والنذر: أن يوجب العبد على نفسه أمرًا ليس بواجب تعظيما وقُربة لله تعالى. والمعنى: وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا. قال سفيان في قوله سبحانه: ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ أي: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه: الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به. وآخر المناسك هو الطواف بالبيت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض. ولذلك قال تعالى: ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ والعتيق القديم، والمراد هنا: الكعبة، أفضل المساجد على الإطلاق، وأحب البقاع إلى الله. وهو قديم؛ لأنه أول بيت وُضِع للناس: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ (آل عمران: 96)، والقِدَم هنا صفة مدح؛ لأنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به. والعتيق أيضاً الشيء الجميل الحسن، وكذلك هو -البيت- غالٍ ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا لا نراه في غيره من آيات بينات: ﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ (آل عمران: 97). إضافة إلى ما تميز به من فضل الطواف به وما يترتب عليه من الأجور ومغفرة الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة ) رواه أحمد وصححه الألباني. والعتيق كذلك المحرر غير المملوك للناس، المعتوق من السيطرة والعبودية لغير الله، كما وأنه لا مُلْك لأحد عليه، لأن الله حفظه من اعتداءِ وتسلط الجبابرة. قال مجاهد: لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك. ألاَ ترى إلى قصة الفيل، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هَدْم البيت؟ حتى الفيل الذي كان يتقدَّم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداءٌ على بيت الله، فتراجع عن البيت، وأخذ يتوجَّه إلى كل الجهات التي أرادوا إلا ناحية الكعبة. ويُقال: إن رجلًا تقدّم إلى الفيل، وقال في أذنه: ابْرُك محمود - وهو اسم الفيل - وارجع راشدًا فإنك ببلد الله الحرام. قال الشاعر: حُبِسَ الفيل بالمُغَمَّسِ حَتَّى * ظَلَّ يعوي كأنه مَعْقُور ثم أنزل الله عليهم الطير الأبابيل التي أخذت ترميهم بالحجارة حتى الموت. إنه البيت العتيق الذي أعفاه الله فلم يغلب عليه جبار، وأعفاه الله من البلى والدثور، فما يزال معمورًا منذ إبراهيم عليه السلام ولن يزال. وفي الآية تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون. وفي الآية أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر بالمناسك عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه،وهو المسمّى بطواف الإفاضة، أو طواف الحج، أو طواف الزيارة. وهناك فائدة أخرى وهي: أن الطواف مشروع في كل وقت، وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه. ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ (الحج: 30): ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي: ذلك الذي ذكر الله لكم من تلكم الأحكام، وما أمر به سبحانه من الطاعات في أداء المناسك، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها، هي خير للعبد عند بارئه جلَّ وعز. والحُرمات: جمع حُرُمة: وهي ما يجب احترامه. وحرمات الله: كل ما له حرمة، وأمر الشارع باحترامه، بعبادة أو غيرها، كالمناسك كلها، والإحرام، والهدايا، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمشعر الحرام، والمُحرِم ما دام مُحْرِمًا، وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها، ويشمل القلائد وغير ذلك من أعمال الحجّ، كالغسل في مواقعه، والحلق ومواقيته ومناسكه. وحين تُعظِّم هذه الحرمات لا تُعظمها لذاتها، فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته، إنما تُعظِّمها لأنها حرمات الله وأوامره؛ فالوضوء مثلًا، البعض يرى فيه نظافة للبدن، فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده حَلَّ محلّه التيمُم بالتراب الطاهر مما يدل على أن الأمر إنما هو الالتزام والانقياد واستحضار أنك مُقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطَّهر له بالوضوء، فإنْ أمرك الله بالتيمم فعليك الالتزام دون البحث في أسباب الأمر وعِلّته. وهكذا يكون الأدب مع الأوامر وتعظيمها؛ لأنها من الله. فالعبادة ما هي إلا انضباط عابد لأوامر معبود وطاعة مطلقة لا تقبل المناقشة؛ لأنك لا تؤديها لذاتها وإنما انقيادًا لأمر الله، ففي الطواف تُقبِّل الحجر الأسود، وفي رمي الجمار ترمي حجرًا، وهذا حجر وذاك حجر، هذا ندوسه وهذا نُقبِّله فَحَجر يُقَبَّل وحَجر يُقَنْبل؛ لأن المسألة مسألة طاعة والتزام، وهذا كله من تعظيم حرمات الله. والمراد من تعظيم الحرمات: إجلالها بالقلب، ومحبتها، وتكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل. وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها. والرجس دنس النفس والشرك بالله دنس يصيب الضمير ويلوث القلوب، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان. ثم يُبيَّن الحق سبحانه جزاء هذا الالتزام: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾. أي: من عظَّمها وأجلَّها، واجتنب معاصي الله ومحارمه، وكان ارتكاب المعاصي عظيما في نفسه، فهو على خير وهدى، وله الخيرية من ربه جلَّ وعلا، والخيرية هنا ليست في ظاهر الأمر وعند الناس أو في ذاته، إنما الخيرية للعبد عند الله. تأمل.. عند الله وهذا يعني: الثواب الجزيل والخير الكثير والعطاء الكريم للعبد في الدنيا والآخرة، قال تبارك وتعالى: ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ (البينة: 8). فكما أن الشارع رتب على فعل الطاعات الثواب والأجر الكبير، كذلك فقد جعل على ترك المحرمات و(اجتناب) المحظورات الخير العظيم والأجر العميم. لأن تعظيم حرمات الله، من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه جل وعلا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: ( اتق المحارم تكن أعبد الناس ) رواه الترمذي وحسنه الألباني. ثم يقول سبحانه: ﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ هي في الأصل حلال، لكنه لما حرَّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائمًا فلا ينتفعون بها، فبيَّن سبحانه أنها حلال إلا ما ذُكر تحريمه، كقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ... ﴾ (الأنعام: 121). فذكر جل وعلا منته وإحسانه بما أحله لعباده، من بهيمة الأنعام، فقال: ﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ ﴾ فهو وحده من خلق الأنام، ثم خلق الأنعام، وشرعها من جملة المناسك عند البيت الحرام، التي يتقرب العباد بها إلى العزيز العلاَّم، فعظمت منته تعالى فيها من الوجهين، كما جاء في موضع آخر قوله سبحانه : ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ (الزمر: 6). أي: من عزته أن خلقكم ربكم- أيها الناس على كثرتكم وانتشاركم في أنحاء الأرض - من آدم، وخلق منه زوجه ليسكن إليها وتسكن إليه، وتتم بذلك النعمة، ثم خلق لكم -رحمة بكم- من الأنعام ثمانية أنواع ذكرًا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز، قال تعالى: ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ﴾ (الأنعام: 143)، وقال في الآية التي بعدها: ﴿ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ﴾ (الأنعام: 144)، وخصها بالذكر، مع أنه أنزل لمصالح عباده من البهائم غيرها، لكثرة نفعها، وعموم مصالحها، ولشرفها، ولاختصاصها بأشياء لا يصلح غيرها، كالأضحية والهدي، والعقيقة، ووجوب الزكاة فيها، واختصاصها بالدية. يخلقكم في بطون أمهاتكم طورًا بعد طور من الخلق، وأنتم في حال لا يد مخلوق تمسكم، ولا عين تنظر إليكم، وهو قد رباكم في ذلك المكان الضيق في ظلمات البطن، والرحم، والمَشِيمَة، ذلكم الله ربكم الذي خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، وخلقكم وخلق لكم الأنعام والنعم، وهو ﴿ رَبُّكُمْ ﴾ المألوه المعبود، الذي رباكم ودبركم المتفرد بالملك المتوحد بالألوهية المستحق للعبادة وحده، فكيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره مِن خلقه؟ فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك، فهو الواحد في ألوهيته، لا شريك له، ولهذا قال: ﴿ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ فكيف تعدِلون عن عبادته إلى عبادة يغره بعد هذا البيان ببيان استحقاقه تعالى للإخلاص وحده إلى عبادة الأوثان، التي لا تدبر شيئا، وليس لها من الأمر شيء، وأين ذهبت عقولكم!؟ . ثم جاء الاستثناء بقوله: ﴿ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ والمراد: إلا ما يتلى عليكم في القرآن تحريمه، وقد حرمه الله -جل وعلا- على عباده، ومنعهم منه، رحمة بهم وتزكية لهم، مثل قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ (المائدة: 3). ومنه أيضا ما يتلى تحريمه في القرآن واستثني، كقوله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (الأنعام: 145). وجيء بالمضارع في قوله: ﴿ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾؛ ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق وتلي، وكذلك ليشمل ما لم يزل يتلى، ويشمل أيضا ما عسى أن يَنزل من بعد. وفي الآية إشارة لطيفة، وذلك أنه لما ذكر آنفًا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل البَحيرة، والسائبة ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾(المائدة: 103). واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات (هذا حلال) مثل الدم وما أهلّ لغير الله به، وقولهم (هذا حرام)، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾(النحل: 116). والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ (النساء: 136). أي: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن طاعتهما، وبالقرآن الذي نزله عليه، وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. ومن يكفر بالله تعالى، وملائكته المكرمين، وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته، واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب، فقد خرج من الدين، وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق. والرّجس: حقيقته الخبث والقذارة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (المائدة: 90). فأكرم به من دين طهارة ونقاء؛ فحيثما توجه أهله، فعليهم دوما تجنب كل خبيث من المسكرات ومراهنات القمار مما يصدٌّ عن ذكر الله، وأنصاب الحجارة المعظَّمة، والقِداح التي يستقسم بها الكفار على الأشياء، إقداما أو إحجاما عنها، فكل ذلك إثمٌ مِن تزيين الشيطان، فابتعدوا عن هذه الآثام – أيها المؤمنون - لعلكم تفوزون بالجنة. بل وأمر الدين بتجنب أهل الشرك والإعراض عنهم احتقارًا لهم، فإنهم خبثاء البواطن، ومكانهم الذي يأوون إليه في الآخرة نار جهنم; جزاء بما كانوا يكسبون من الآثام والخطايا ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (التوبة: 95). ووصف الأوثان بالرجس المعنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد. والمراد: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ ﴾ أي: الخبث القذر من الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس، والرجْس: النجاسة الغليظة المتغلغلة في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه، فهي ليست سطحية فيه يمكن إزالتها. ﴿ وَاجْتَنِبُواْ ﴾ لا تدل على الامتناع فقط، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية؛ لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بُدَّ أن تداعبك وتشغل خاطرك، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه، اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم، ولأن حدود الله نوعان: • الأوامر وما أحلَّ الله فتلك يقف عندها العبد ولا يتعداها إلى غيرها: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ (البقرة: 229). • أمَّا النواهي والمحرمات: فلا يقترب منها العبد مجردَ اقتراب: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ (البقرة: 187). ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ أي: جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور. ويغلظ النص من جريمة قول الزور إذ يقرنها بالشرك في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ لأن الشرك افتراء على الله وزور، وهو كقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ (الأعراف: 33)، وإنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشرك كله، وأن يجتنبوا الزور كله، وأن يستقيموا على التوحيد الصادق الخالص، ويدخل في ذلك أيضاً: شهادة الزور، كما جاء عن أبي بَكْرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: ( الإشراك بالله وعقوق الوالدين -وكان متكئا فجلس، فقال:- ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور )، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه. ﴿ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ (الحج: 31): وحنفاء جمع حنيف وأحنف، مأخوذة من حنيف الرِّجل يعني: تقوُّسها وعدم استقامتها، فهو ميْل، لكنه ميل واعوجاج عن الشر والشرك، والاعوجاج عن الاعوجاج استقامة. والحنيف هو المخلص لله في العبادة، لذلك وُصِف إبراهيم - عليه السلام - بأنه ﴿ كَانَ حَنِيفًا.. ﴾ (آل عمران: 67) يعني: مائلًا عن عبادة الأصنام. وهو كقوله جل وعلا: ﴿ إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين ﴾ (النحل:120). فمن أراد ثواب الآخرة فليحقق معنى ﴿ حُنَفَاءَ للَّهِ.. ﴾ (الحج: 31) ويعمل من منطلق أن الله أمر بالتوحيد. والمراد أي: كونوا على ملّة إبراهيم حقًا، مستقيمين لله على إخلاص العمل له، مقبلين عليه بعبادته وحده وإفراده بالطاعة، معرضين عما سواه بنبذ الشرك، ولذلك زاد معنى ﴿ حُنَفَاء لِلَّهِ ﴾ بياناً، بقوله ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ ، وهذه هي الصفة الثانية التي وصف الله بها عباده المؤمنين، فالشرك خطره عظيم؛ لذلك يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَنْ عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشِرْكه ) رواه مسلم. وذلك جميعه هو الدين الخالص والعروة الوثقى ﴿ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ (البقرة:256). فأمر الشرك كما ذكر الله: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ فإنَّه من يشرك بالله شيئًا، فمثله- في بُعْده عن الهدى، وفي هلاكه وسقوطه من رفيع الإيمان إلى حضيض الكفر، وتخطُّف الشياطين له من كل جانب، وانحطاطه وتلقف الضلالات إياه ويأسه من النجاة - كمثل مَن سقط من السماء: بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه لا بذاته ولا بغيره، وقبل أنْ يصل إلى الأرض تتخطفه الطير. والخطف: أخذ الشيء بسرعة سواء كان في الأرض أم كان في الجو. فالمشرك بالله إما أن تخطفه الطير فتقطع أعضاءه في الهواء وتفرّقه مِزعًا في حواصلها، وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح، وتتلاعب به فتهوي به فتقذفه في مكان بعيد، فهو هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية. ولهذا جاء في حديث البراء: ( إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت، وصعدوا بروحه إلى السماء، فلا تفتح له أبواب السماء، بل تطرح روحه طرحا من هناك ) صححه الألباني. وهنا تصوير بليغ وعظيم للإيمان، فالإيمان بمنزلة السماء، محفوظة مرفوعة عالية، والطير هي الشهوات، والريح هي ريح الشيطان. وكذلك المؤمن المستقيم على منهج الله، هو في عزة واستعلاء وسمو ورفعة، فإذا ترك الإيمان والاعتصام بالرحمن وأشرك بالله، فهو بمنزلة الساقط من السماء، عرضة للآفات والبليات، عرضة للأهواء وتتقاذفه الأوهام التي تتوزع أفكاره، وتتخطفه الشياطين من كل جانب، وتتلاعب به هنا وهناك، فإذا هو ضائع ذاهب بددًا كأن لم يكن من قبل أبدًا. إنه مشهد الهُوِيِّ من شاهق.. وفي مثل لمح البصر يتمزق. فإذا مزقوه طوَّحوا به في وادي الضلالة في المهاوي المتلفة التي لا نجاة لمن حل فيها، فأذهبوا عليه دينه ودنياه. وهو إيماء إلى أن من المشركين من شركه لا يرجى منه خلاص كالذي تخطفته الطير، ومنهم من شركه قد يخلص منه بالتوبة إلا أن توبته أمر بعيد عسير الحصول. وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء. إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها. قاعدة التوحيد. ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه. (يتبع) عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
#5
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج(5)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم الخامس يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
الشعيرة: من الشعور، وهي المَعْلم الواضح. وشعائر الله: بمعنى: مُشعِرة، أي: معلمة بما عينه الله، وهي لقب لأعلام الدين الظاهرة، والمعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها، ومنها مناسك الحجّ كلها، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ (البقرة: 158). فكل ما أمر الله بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي: مما أشعر الله الناس وقرره وشهره. وكل ما جعل علما لطاعة الله الواحدة شعيرة، فالإحرام شعيرة، والمشعر الحرام أحد المشاعر، وكذلك الكعبة، والطواف، والصفا والمروة، وعرفة، ورمْي الجمار، والتكبير، ونحوها من معالم الحجّ التي عظّمها الله، وأمرنا بتعظيمها، ومنها الهدايا والقربان للبيت، حيث تطلق الشعيرة أيضًا على بدنة الهدي، قال تعالى: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ (الحج: 36)؛ لأنهم يجعلون فيها شِعارًا، والشِعار: العلامة، وإشعار الهدي طعنه في سنامه الأيمن حتى يسيل منه دم؛ ليعلم أنه هدي. وقد استحب الإشعار العلماء، لما فيها من تعظيم شعائر الله، وإظهارها، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته، تذبح له ويتقرب بها إليه. وشعائر الله أخصّ من حرمات الله فعطف هذه الجملة: ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ على جملة: ﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾ للعناية بالشعائر. ﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محلُّ نظر الله إليك، ومحلُّ قياس تعظيمك لشعائر الله. فإن الله تعالى لا يريد أنْ يُخضِع قوالبنا، إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا، ولو أراد سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) ﴾ (الشعراء). والمراد: فقد حلّت التقوى في قلب من عظَّم شعائر الله، يعني: أدَّاها بحبٍّ وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل. كما أن تعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، وهو اعتقاد قلبي ينشأ عنه العمل، والمعظم لشعائر الله يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها تابع لتعظيم الله وإجلاله. وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فِعْله، والأولى بالعبادات أن تؤدى بمحبة ولذة، فذلك أدعى عند الله بالقبول، وعند العبد بالثبات والاستمرار عليها، وتحقيق ثمراتها في الدنيا والآخرة. وهذه المحبة للتكاليف عبَّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: ( وجُعلَتْ قُرَّة عيني في الصلاة ) رواه أحمد وصححه الألباني، خلافا لحال أولئك الذين يقول فيهم سبحانه: ﴿ إِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا ﴾ (النساء: 142). وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، فقد جاء في الحديث، عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين (رواه البخاري). ويشترط في الهدي الشروط الآتية: الأول: أن يكون من بهيمة الأنعام، فلو أهدي فرسًا لم يجزئه. الثاني: أن يبلغ السن المعتبر شرعا، وهو أن يكون ثنيًا، أو جذعًا، فالجذع من الضأن، والثني مما سواه؛ من المعز، والبقر، والإبل. الثالث: أن يكون الهدي سليما من العيوب المانعة من الإجزاء، عن علي رضي الله عنه، قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أحمد وصححه الألباني. وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عَوَرها، والمريضة البين مَرَضها، والعرجاء البين ظَلَعها، والكسيرة التي لا تُنقِي ) رواه أحمد، وصححه الألباني. الرابع: أن يكون في زمن الذبح؛ وهو الوقت الذي تذبح فيه الأضاحي، وهو يوم العيد، وثلاثة أيام بعد العيد. الخامس: أن يكون في مكان الذبح فلا يصح إلا في الحرم. السادس: ألا يسافر بين العمرة والحج، فإن سافر إلى أهله ثم عاد فأحرم بالحج، فإنه يسقط عنه الهدي، وإن سافر إلى غير أهله لا يسقط. وقد كان المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعتنون بالهدي عناية كبيرة؛ فيختارونه سمينًا غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله. وكل ذلك لأجل تحقيق التقوى، والتي هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ (البقرة: 197). كما أن تقديم الهدي -من النحر والذبح- يدل على التقوى والاستسلام لله وحده، قال جل وعلا: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، ويعبر عن التوجه إلى رب البيت وطاعته وشكره، قال جل وعزَّ: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)﴾ (الكوثر). وهذه الذبائح يذكر القرآن الكريم أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم، تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة. والإسلام - منذ نشأة هذه الأمة المسلمة - إنما يوجهها وجهتها الصحيحة، وهي التوجه إلى الله وحده دون سواه.. فهي والدعاء والصلاة سواء. ﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) ﴾ قوله تعالى: ﴿ لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ والمنافع: من النفع، وهو حصول ما يلائم. والنفع أيضا: ما يستعان به في الوصول إلى الخيرات، وما يتوصل به إلى الخير خير وضده الضر. فهذه الأنعام التي تتخذ هديًا ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الانتفاع بها، إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها، أو صوفها أو أوبارها أو أشعارها. وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعًا لا يتلفها ولا يضرها، وإن كانت هديا، إذا احتاج إلى ذلك، كما ثبت في الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً، قال: ( اركبها )، قال: إنها بَدنَة، قال: ( اركبها، ويحك )، في الثانية أو الثالثة. ولا يخفى ما في هذه الأنعام من منافع حيث ينتفع المرء بصوفها ووبرها ولبنها ولحمها، ويتخذها زينة وركوبا. وفي رواية لمسلم، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها ). وفي الآية رد على المشركين؛ لأنهم كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه منعوا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه، وغير ذلك. كل هذا ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ (الحج: 33) أي: إلى وقت مقدر ومؤقت، وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا، وما دامت هذه المنافع إلى أجل مسمى، فلا بُدَّ أنها المنافع الدنيوية، أما المنافع الأخروية فسوف تجدها فيما بعد في الآخرة. ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ والمَحِلّ: من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه. أي: مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق، قال تعالى: ﴿ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ (الفتح: 25). وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها، ولكن الهدي لا بد أن يذبح في الحرم يكون بها التقرب الله بواسطة تعظيم الكعبة، فالهدايا تابعة للكعبة، قال تعالى: ﴿ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴾ (المائدة: 95) والهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ، والحجّ قصد البيت، قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ (آل عمران: 97). والمناحر: مِنى، والمروة، وفجاج مكة، وفي الحديث الشريف: ( ومنى كلُّها مَنْحرٌ ) رواه مسلم. فإذا ذبحت، أكلوا منها وأهدوا، وأطعموا البائس الفقير. ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ (الحج: 34) المنسك: هو العبادة، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (الأنعام: 162). والمعنى: لكل أمة من الأمم، ولكل جماعة مؤمنة سلفت، جعلنا لها مناسك مِنَ الذبح وإراقة الدماء، وما يناسبها من طاعات وعبادات، ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي، وما يصلح المجتمع، وذلك في الفرعيات. أما في الأصول العَقَدية الثابتة، فكما ذكر الله تعالى بقوله: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ﴾ (الشورى: 13). والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا: إقامة ذكره، والالتفات لشكره. والمراد: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملا، ولهذا قال تعالى: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾. ﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُم ﴾ يعني: أنه تعالى أوجدها لك، وملكك إياها، وذَلَّلها لك فاستأنسْتها، وسخّرها لك فانتفعتَ بها، ولولا تسخيره ما انقادتْ لك بقُوتك وقدرتك. وفي الآية دلالة عظيمة على فضل وأهمية ذكر الله وشكره في كل شيء، وعلى كل نعمة ينالها العبد، ومنها بهيمة الأنعام، فيقول عند الذبح: بسم الله، والله أكبر؛ لأن الذبح إزهاق روح خلقها الله، وما كان للمرء أن يزهقها بإرادته وحوله وقوته، بل بأمر الله وقدرته ومشيئته وإرادته، فما ذبحها العبد إلا لأن الله أحلَّها، وما أكلها إلا بسم الله، وهو سبحانه من أمر المسلم وأباح وأقْدَر، فباسم الله نذبح، والله أكبر. ثم إنه وإن اختلفت أجناس الشرائع من أمة لأمة، وتَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وكلها متفقة على هذا الأصل العظيم، وهو التوحيد. ﴿ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ إنما هو إله واحد يشرِّع لكل أمة ما يناسبها وما يصلحها، وهو معبودكم الواحد الأحد، قال جل وعلا: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ (الأنبياء: 25). المشرِّع للجميع إله واحد، الناس جميعًا من لَدُن آدم وإلى أنْ تقومَ الساعة عياله، وهم عنده سواء، لذلك يختار لكلٍّ ما يُصلحه، ولو كانت آلهة كثيرة لكانت شرائعها مختلفة. وما دام أن إلهكم إله واحد، وما دُمْتم عنده سواء، وليس منكم مَنْ هو ابنٌ لله، ولا بينه وبين الله قرابة؛ ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. فأَسلِموا كل أموركم لله، وأخلصوا، واستسلموا لحُكْمه وطاعته. وهذا هو وحده طريق الوصول إلى دار السلام. فإنْ أَمَرَ فعظِّم أمره، وخذه على الرَّحْب والسَّعَة، فإنْ ترك مجالًا لاختيارك فاصنع ما تشاء. ولا تنسَ أن الله تعالى أعطاك فرصة للترقِّي الإيماني، وللترقِّي الإحساني، وفتح لك مجال الإحسان إنْ أردتَ. وتقديم المجرور في قوله: ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ للحصر، أي: أسلموا له لا لغيره، واتركوا جميع المناسك التي أُقيمت لغيرِه، فلا تنسكوا إلاّ في المنسك الذي جعله لكم. وفيه تعريض بالرد على المشركين. ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ أصل المخبت هو مَن سلك الخَبْت، وهو المكان المنخفض، فكأن المؤمن سلك نفسه في الانخفاض؛ لأنّ التواضع من شيم المؤمنين، كما أن التكبّر من سمات المشركين، قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ (غافر: 35). المُخْبِت: المتواضع لعباد الله الذي لا تكبُّر عنده، الخاشع الخاضع المستسلم لكل أوامر الله، والراضي بقضاء الله والذي إذا ظُلم لا ينتصر لنفسه، عملًا بقول الله تعالى: ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ (الشورى: 43). ولا تكتفي بالعفو، بل وتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْه والحِقْد من نفسه، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ (فصلت: 34)، فتكون قد أخرجتَ خَصْمك من قالب الخصومة، إلى قالب الولاية والمحبة، قال تبارك وتعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 134)، وهي أعلى المراتب. فالإخبات على نوعين: إخبات لله بالخضوع والخشوع والتعظيم لأوامره، وإخبات لخَلْق الله، بحيث لا ينتصر لظلمه ولا يظلم، إنما يتسامح ويعفو. وأحسن ما يفسّر به { الْمُخْبِتِينَ } ما ذكر بعده من صفات أربع هي: وجل القلوب عند ذكر الله، والصّبر على الأذى في سبيله، وإقامة الصلاة، والإنفاق. وكلّ هذه الصفات الأربع مظاهر للتواضع، ولأهلها البشرى بخيرَي الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (64)﴾ (يونس). ﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ الوَجل: هو الخوف الشديد، كما في قوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ﴾ (الحجر: 52). فهؤلاء المتواضعون الخاشعون مِن صفاتهم أنهم إذا ذُكِر الله وحده خافوا عقابه, وحَذِروا مخالفته، فاضطربت قلوبهم، وارتعدت لذكر الله تعظيمًا له، ومهابة منه، فتركوا لذلك المحرمات. وذلك علامة إيمان بالله، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)﴾ (الأنفال). وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ (الرعد: 28). فمرة يقول: ﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾، ومرة يقول: ﴿ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾، لماذا؟ لأن ذكر الله إنْ جاء بعد المخالفة لا بُدَّ للنفس أنْ تخاف وتَوْجَل وتضطرب هيبةً لله عز وجل، أما إنْ جاء ذِكْر الله بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنُّ به وتأنَسُ؛ لما فيها من رصيد إيماني، ترجع إليه عند الشدة، وتركَنُ إليه عند الضيق والبلاء، فإنْ تعرض العبد لمصيبة وعزَّ عليه دَفْعها لجأ إلى ربه الرحيم، مطمئنا وواثقا بحفظ الله وتوفيقه، كما ذكر الله عن موسى عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾ (الشعراء). ﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ﴾ وإذا أصابهم بأس وشدة أو شيء من المصائب من البأساء والضراء، وأنواع الأذى في سبيل الإسلام، فلا يجري منهم التسخط أو الاعتراض على قضاء الله فيهم، بل يصبرون مؤملين الثواب، ومحتسبين من الله عز وجل، قال الحسن البصري: والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ. ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ﴾ أي: الذين جعلوها قائمة مستقيمة كاملة؛ بأن أدَّوْا الصلاة تامة، وأدوا اللازم فيها والمستحب، وعبوديتها الظاهرة والباطنة. والصلاة هي الفرض الذي لا يسقط عن المؤمن بحال من الأحوال، فالشهادتان يكفي أنْ تقولها في العمر مرة، والزكاة إنْ كان عندك نِصَاب فهي مرة واحدة في العام كله، والصيام كذلك، شهر في العام، والحج إنْ كنتَ مستطيعًا فهو مرة واحدة في العمر، وإنْ لم تكُنْ مستطيعًا فليس عليك حج، أما الصلاة فهي الولاء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله، خمس مرات في اليوم والليلة، والله هو من أمر ودعا إليها، قال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) ﴾ (البقرة). ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) ﴾ ومما آتاهم الله ومن عطائه وطيب رزقه جل وعلا ينفقون في سبيل الله وعلى أهليهم ومَن وَجَبَتْ عليهم نفقته, ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله. والإنفاق يشمل جميع النفقات الواجبة، كالزكاة، والكفارة، والنفقة على الزوجات والعيال والمماليك، والأقارب، والنفقات المستحبة، كالصدقات على الفقراء والمحتاجين والضعفاء من المؤمنين؛ لأنّ ذلك هو دأب المخبتين. وأُتي بـ(من) المفيدة للتبعيض في قوله: ﴿ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾؛ ليعلم سهولة ما أمر الله به ورغب فيه، وأنه جزء يسير مما رزق الله، ليس للعبد في تحصيله قدرة، لولا تيسير الله له ورزقه إياه. فيا أيها المرزوق من فضل الله، أنفق مما رزقك الله، ينفق الله عليك، ويزدك من فضله. وهو كما ذكر الله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ [البقرة : 219]، أي اليسير الزائد عن الحاجة. إن الإسلام يوحد المشاعر والاتجاهات، ويتوجه بها كلها إلى الله، ومن ثم يُعنى بتوجيه الشعور والعمل، والنشاط والعبادة، والحركة والعادة؛ إلى تلك الوجهة الواحدة. وعلى هذا الأساس حرَّم من الذبائح ما أُهلَّ لغير الله به؛ وحتَّم ذكر اسم الله عليها، حتى يجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله وحده، لأنه هو الإله المعبود دون سواه. (يتبع) عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
#6
|
||||
|
||||
وقفات مع آيات الحج(6)/أنور الداود النبراوي
وقفات مع آيات الحج أنور الداود النبراوي القسم السادس والأخير امتن اللَّه تعالى على عباده بأن جعل البُدن قربة عظيمة تهدى إلى بيته الحرام، بل هي أفضل ما يهدى إليه، فقال تعالى:
{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36﴾}(الحج). { والبُدْن }: جمع بَدَنة؛ وهي الجمل أو الناقة، أو ما يساويهما من البقر، وسمَّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أنْ تكون بدينة سمينة وافرة، ولا بُدَّ أنْ يراعى فيها هذه الصفة عند اختيار الهَدْي الذي سيقدم لله تبارك وتعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.. }(البقرة: 267). { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } جعلها الله معالم تؤذن بالحج، وجعل لها حرمة. وهذا وجه تسميتهم وضع العلامة التي يعلّم بها بعير الهَدْي في جلده إشعارًا. وكان عبد الله بن عمر إذا أهدى هدْيًا من المدينة قلّده وأشعره بذي الحليفة، يقلّده قبل أن يُشعره، وذلك في مكان واحد وهو موجهه إلى القبلة، يقلده بنعلين، ويشعره من شقه الأيسر (رواه مالك في الموطأ). وتقليد الهدي: أن يعلق شيء على عنقه. وإشعار الهدي: أن يطعن في صفحة سنامه حتى يسيل الدم. والحكمة من ذلك أن يُعرف أنه هدي، فيُحترم ولا يتعرض له أحد. وقد عُدَّ الاعتداء عليه في جملة الحرمات في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ }(المائدة). وفي الآية دليل على أن الشعائر عام في جميع أعلام الدين الظاهرة. وتقدم أن الله أخبر أن من عظَّم شعائره، فإن ذلك من تقوى القلوب. { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } والخير: هو النّفع، والمراد: ما يحصل للناس من النفع في الدنيا؛ من انتفاع الفقراء بلحومها وجلودها وجِلالها ونعالها وقَلائدها، وما يحصل للمُهدين وأهليهم من الشبع من لحمها يوم النّحر، إضافة إلى خير الآخرة من الثواب والأجور، وثواب الشكر من الذين أُعطوا لحومَها، حيث يتوجهون إلى ربّهم - الذي أغناهم بها - بالثناء والحمد. وبعد أن بين سبحانه أنه أراد بالبدن الخير لعباده، بيَّن الواجب عليهم مقابل ذلك، فقال: { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } أي: اذكروا الله بالشكر على أنْ وهبها وذلَّلها لكم، واذكروا اسم الله عليها حين ذَبْحها. ومعنى ﴿ صَوَافَّ ﴾ أي: واقفةً قائمة على أرْجُلها، لا ضعفَ فيها ولا هُزَال، مصفوفة وكأنها في معرض أمام الناس. وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ تُقدَّمْ هَدْياً لبيت الله. وقد ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في حجّة الوداع قال فيه: ( ثم انصرف رسول الله إلى المنحرَ فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدنة جعل يطعنها بحَربة في يده ثم أعطى الحربة عليًّا فنحر ما غَبَر، أي ما بقي وكانت مائة بدنة ) رواه مسلم. وهذا يقتضي أنها كانت مجتمعة متقاربة.وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها، فقال: ( ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ). وإيقاف الناس بُدْنَهم للنحر مجتمعة ومنتظمة غير متفرقة مما يزيد هيئتها هيبة وجلالًا، وهو من مظاهر القوة والامتثال والانقياد، كما في قوله تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص (4﴾} [الصف: 4]. فتُنْحَر الإبل واقفة قد صُفَّتْ ثلاث من قوائمها وقُيِّدت الرابعة. { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } وجبَ الشيء وجباً يعني: سقط سقوطاً قوياً على الأرض، فإذا نحرت البُدْن، وسقطت جنوبها على الأرض، وخرجت روحها أكل منها أصحابها استحبابًا وتعبدًا. ولا يجوز الأكل من البَدَنة إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها، فعن شَدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته، ولْيُرِحْ ذَبِيحته )رواه مسلم. والقصد من هذا التوقيت المبادرة بالانتفاع بها إسراعًا إلى الخير الحاصل من ذلك في الدنيا بإطعام الفقراء وأكل أصحابها منها، فإنه يستحب أن يكون فطور الحاج يوم النحر مِن هديه، وكذلك الخير الحاصل من ثواب الآخرة. وفي الأمر بالأكل منها إبطال لما كان عند أهل الجاهلية من تحريم أكل المُهدي من لحوم هديه. { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } وأطعموا منها الفقير القانع؛ الذي لا يسأل تعففًا، والفقير المعتر؛ الذي يتعرض للسؤال لحاجته، فكل منهما له حق. والأمر هنا للوجوب. والله سبحانه قادر أنْ يعطي الفقير الذي أمرك أنْ تعطيه، ويجعله مثلك تمامًا غير محتاج، لكنه أراد من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يُحدِث توازنًا في المجتمع، فحياة البشر لا بُدَّ فيها من هذا التفاوت بين الناس، ثم تأتي الشريعة فتأخذ من القوي وتعطي الضعيف، وتأخذ من الغني وتعطي الفقير؛ لتقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والأَثَرة. فحين يعطي القويُّ الضعيفَ من قُوْتِه، فإن الضعيف لا يحسده عليها، بل ويتمنى له الزيادة من فضل الله؛ لأن خير ذلك العطاء سوف يعود عليه، وحين يعطي الغنّي مما أفاض الله عليه للفقير فإنه يُؤلِّف قلبه، ويجتثّ منه الغِلَّ والحسد، ويدعو له بدوام النعمة. لا بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضًا ) رواه البخاري ومسلم. فإنْ لم تفعل فلا أقلَّ من إخفاء هذا الخير عن أعْيُنِ المحتاجين حتى لا تثير حفائظهم. لذلك، ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره، إنْ أصابته في ماله مصيبة يحزن له الآخرون ويتألمون بألمه؛ لأن نعمته تفيض عليهم، وخيرُه ينالهم. وأيام الذبح أربعة على الأصح؛ يوم العيد، وثلاثة أيام بعده؛ لحديث جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( وأيام التشريق كلها ذبح ) رواه أحمد وابن حبان وضعفه البيهقي. كما أن هذه الأيام مشتركة في الرمي والتكبير وحرمة الصيام، فلا يمكن أن نُخْرِجَ عن هذا الاشتراك وقت الذبح. وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله منه، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء. وقال الشافعي، وأحمد: لا تجب الأضحية، بل هي مستحبة؛ لما جاء في الحديث: ( ليس في المال حق سوى الزكاة ). والنبي عليه الصلاة السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم. قال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي. رواه الترمذي. وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، حتى تباهى الناس فصار كما ترى. رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله (رواه البخاري). وأما مقدار سِنّ الأضحية، فقد روى مسلم عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تذبحوا إلا مُسِنَّة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن ). { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي: البُدْن { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لعلكم تشكرون الله على تسخيرها، فإنه لولا تسخيره لها، لم يكن لكم بها طاقة، ولكنه ذللها لكم وجعلها منقادة لكم خاضعة، إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، رحمة بكم وإحسانا إليكم، قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73﴾}(يس). ولولا أنّ الله أودع في طباعها هذا الانقياد لما كانت أعجزَ من بعض الوحوش التي هي أضعف منها فتنفر من الإنسان ولا تسخّر له. فعليكم أنْ تشكروا الله وتحمدوه على ذلك، وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا المنسك، وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الآخرة، وتفردوه سبحانه وتعالى بالعبادة. وهذا تعريض بالمشركين إذ وضعوا الشرك موضع الشكر. { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ }(الحج: 37). { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا } تعليل للآية السابقة: { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون }. أي: أنه ليس المقصود من الهدي ذبحها فقط، فإنه لن ينال اللهَ مِن لحوم هذه الذبائح ولا من دمائها شيء، إنما شرع الله نحر هذه الهدايا والضحايا وسخرها لإقامة شكره وذكره عند ذبحها، وحين التمكن من الانتفاع بها، فإنه تعالى الخالق الرازق وهو الغني الحميد، ولا يريد الله منكم على ذلك إلا أن تتّقُوه وتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه، وما يحبه ويرضاه، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه، وقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه، وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد. والنَيْل: هو الإصابة. يقال ناله، أي أصابه ووصل إليه. ويقال أيضاً بمعنى أحرز ، فإن فيه معنى الإصابة، كقوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }(آل عمران: 92)، وقوله: { وهموا بما لم ينالوا }(التوبة: 74). وفي الآية إيماء إلى أن إراقة الدماء وتقطيع اللحوم ليسا مقصودين بالتعبد ولكنهما وسيلة لنفع الناس بالهدايا إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها إلا بالنّحر أو الذبح وإن المقصد من شرعها انتفاع الناس المُهدين وغيرهم. كما أومأ إليه قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد } (المائدة: 97). وفي الآية إبطال ما يفعله المشركون من نضح الدماء في المذابح وحول الكعبة، وكانوا يذبحون بالمَرْوَةِ. قال الحسن: كانوا يلطخون بدماء القرابين وكانوا يشرّحون لحوم الهدايا وينصبونها حول الكعبة قربانًا لله تعالى، يعني زيادة على ما يعطونه للمحاويج. وربما كانوا يقذفون بمِزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج، وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد. يشبه ذلك ما كان يفعله اليونان، حيث يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادًا ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين، وكان المصريُّون يُلقون الطعام في النهر للتماسيح؛ لأنها مقدّسة. وسئل عامر الشعبي عن جلود الأضاحي، فقال: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا }، إن شئت فبع، وإن شئت فأمسك، وإن شئت فتصدق. { وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } ولكن يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، وأن يكون القصد بها وجه الله وحده، لا فخرا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لب فيه، والجسد الذي لا روح فيه. ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها، والتصدّق ببعضها على المحتاجين، واتباع منهج الله في الحياة، فيُطاع الله فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) رواه مسلم. { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } كذلك ذللها لكم -أيها المتقربون-؛ لتعظموا الله وتجلوه، وتشكروه على ما هداكم من الحق، وعلى ما هداكم إليه من الأنعام، والهداية إليها: هي تشريع الهدايا في تلك المواقيت لينتفع بها الناس، ويرتزق سكان الحرم الذين اصطفاهم الله ليكونوا دعاةَ التوحيد لا يفارقون ذلك المكان. وقوله: { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } لفظ (على) فيه للاستعلاء بمعنى التمكن، أي: لتكبّروا الله عند تمكنكم من نحرها، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم. { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } الذين أحسنوا وأخلصوا العمل لله، قال عليه الصلاة والسلام عندما سئل عن الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) رواه البخاري ومسلم، فالمحسن يراقب الله، ويعلم أن الله مطلع على اعتقاده وأقواله وأفعاله، ويخلص في عبادته، ويتابع ويوافق فيها رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي بالأعمال الصالحة في أفضل أوقاتها، فكان إحسانه سببًا لمزيد الهداية وتوالي الرحمات من الله، { ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله } (النساء: 125). والمحسنون.. هم الفاعلون للحسنات من الفرائض والنوافل، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) رواه البخاري، فهو يعيش المبادرة والمسارعة إلى الخيرات، حيث يفعل المستحبات من الدين فوق ما فرض الله عليه من واجبات بلذة واشتياق. والمحسنون.. هم الذين يحسنون إلى الناس؛ ببذل الندى، وبحسن الخلق، وكف الأذى، قال عليه الصلاة والسلام: ( وخالق الناس بخلق حسن ) رواه الترمذي وحسنه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: ( البر حسن الخلق ) رواه مسلم، فإنهم يتمثلون الإحسان في أخلاقهم وتعاملهم، حتى في أقوالهم كما في قوله تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } (البقرة: 83). والمحسنون.. يحسنون كذلك إلى خلق الله من الدواب والبهائم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلى وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) رواه مسلم. فهؤلاء المحسنون لهم البشارة من الله بسعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس: 26). وسيحسن الله إليهم، كما أحسنوا في عبادته، وكما أحسنوا لعباده، { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ (60) } (الرحمن). وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله، ويجيش قلبه فيها بتقواه، ويتطلع فيها إلى وجهه ورضاه، فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلْقِ العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء. انتهى بحمد الله عن موقع شبكة الألوكة الشرعية |
أدوات الموضوع | |
|
|