جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
النظرية المَمْدَريّة
النظرية المَمْدَريّة
النظرية الممدرية معول حفر في كل شيء يقع عليه الحس، أو يقع على أثره. الممدرية نظرية خلاقة لما لم يخلق بعد. فتاقة لما لم يفتق بعد. وتركيبية لما لم يركب بعد. خلاقة لعوالم لم يعهدها الإنسان في تقدمه ومساره الحياتي، عوالم أكثر انبهارا وأرقى إبداعا وأجدى نفعا من الاستنساخ. فتاقة لما لم يزل غامضا عنه كالعقل وبداية الخلق. وتركيبية للعلوم والمعارف والثقافات.. كما أنها معادية التركيب، تعيد تركيب ما تمت بعثرته. ما تم مسخه. ما تم تفكيكه. وما تم بناؤه على غير الوجه السليم. إنها تعيد تركيب الثقافات المختلفة، والمعارف المتعسف عليها، والمفاهيم النقية المهجورة، والأفكار السديدة المحاربة، والقناعات الواقية المستهزئ بها، والمقاييس المنجية التي يراد لها أن لا تكون كذلك.. الممدرية نظام معرفي مركب، لأنه يعود بنظام المعرفة إلى أصله الأول، وهذا النظام المعرفي متكامل، يؤسس للثقافات والمعارف والعلوم والآداب.. يرسم لكل عمل ذهني متميز حقلا له، أو يصنع له كونه الصغير بغية السباحة فيه، والغوص في أعماقه لاستكشاف أسراره، وسبر أغواره، واستكناه قيمه الجمالية.. الممدرية نظرية نضجت وسط الصفاء والنقاء والبلورة، نضجت وسط رؤية ترى الواقع صافيا دون حجب، نضجت وسط رؤية ترى الواقع نقيا خال من الشوائب، نضجت وسط رؤية ترى الواقع مبلورا من جميع جوانبه كما يرى الماء الصافي في كأس بلوري أبيض؛ تستطيع رؤية الماء من جميع جوانب الكأس، نضجت وسط بنى فكرية وأدبية ومعرفية وعلمية سليمة، ومن يعتبرها ردة فعل ظرفية يكون واهما، فهي نظرية تقعيدية واقتعادية. تقعيدية لمنهجية الفكر والعلم والأدب والفلسفة.. واقتعادية عليهم بغية انبثاق عوالمهم وابتنائها عليهم ضمن دائرة الكون. فهي نظرية ذات أبعاد أربعة، إنها رباعية بمحور واحد هو التصور الكلي والوحيد الذي ليس قبله تصور آخر للكون والطبيعة والوجود. أو هي كالبويضة الملقحة التي ليس قبلها خلية غيرها، فهي الخلية الأم، الخلية الأصل، أو خلية الجذع والمنشأ كما تسمى علميا، تتولد عنها خلايا أخرى بعد سويعات من تلقيح نطفة الرجل لبويضة المرأة، وهي بالعشرات قبل مرحلة التوتية. وهي في حالتها هذه تتميز بكون كل واحدة منها قادرة على إنتاج جنين كامل، وهذا الفعل الخلاق منها ميزها عن سائر الخلايا فاعتبرت بمثابة أصول منبثقة عن أصل واحد أولي ليس قبله أصل آخر كما ذكرنا، ثم تأتي الخلايا الأخرى المسؤولة عن بناء الجسم الإنساني باستثناء بناء المشيمة والغلاف الذي يحيط بالجنين (الأمنيوسي)، كما لا تستطيع إنتاج جنين كامل كما هو الحال في سابقاتها. فالخلية الأولى في النظرية الممدرية هي الفكرة الأولى، ولكنها كلية وغير مسبوقة بغيرها من الأفكار، هي القاعدة التصورية الأولى، هي التصور الكلي للكون والطبيعة وما وراء الطبيعة والكون والوجود، فتكون حقيقة؛ مادة خامة لخلق كل شيء بسببها، إنها فكرة كبيرة فوق حجم الكون والطبيعة والوجود لا يوجد ما هو أكبر منها. وأما الأفكار المتولدة عنها، فهي أيضا مقارنة بالخلايا الناتجة عن البويضة الملقحة كبيرة جدا، وعظيمة حقا، لأنها خلاقة فتاقة، فاعلة متميزة، لا تتعدى المائتين، علما بأن الخلايا في الإنسان بالملايير، نصطنع هذا التصور لإدراك الفرق بين الأفكار الكبرى، والأفكار الصغرى، فالأفكار القاعدية كبيرة فعلا، لأنها ولود لغيرها، وللتمييز بين فكر وفكر نسوق الاختلاف هذا ليدرك ما هو أصلي، وما هو فرعي، فالأصلي كالفكرة الأولى التي ليس قبلها فكرة غيرها، تنبثق عنها أفكار كبيرة، تأخذ وظيفتها، ولا تأخذ حجمها وواقعها الاقتعادي في العقل والقلب، ولكنها تظل قواعد يمكن البناء عليها، ويمكن جعل الفكر ينبثق عنها وينبجس عن ذاتها، انظر إلى الخلايا المولدة عن الخلية الأم، ألا تعطي خلايا مسؤولة عن بناء الجسم ولا تشبه غيرها فهي متميزة؟ ألم تزرع في كْييفْ بأكْرانيا لشاب لم يكن يستطيع الأكل والكتابة وتحريك قدميه، ثم أكل بفرشاة، وكتب بقلم، وحرك إراديا قدميه؟ إنها قواعد بنتها قاعدة أصل هي: البويضة الملقحة، فكذلك الأفكار المنبثقة عن القاعدة الفكرية الأصلية، هي أيضا قواعد، ولكنها فرعية، وكونها قواعد فإن ذلك لزمها بسبب صفتها الخلاقة مثلها مثل الخلايا الناتجة عن الخلية الأم، واصطناعنا للصغر والكبر فقط من أجل التمييز. إن الأفكار الفرعية المنبثقة عن الفكرة الأصل تكاد تكون مثلها، فهي بسبب كونها خلاقة أضحت قواعد يبنى عليها، ويمكن تشبيهها بخلايا المنشأ في الكبد والدماغ والجلد.. فإذا تعرض جلد الإنسان إلى حروق فإن خلايا المنشأ الجلدية سرعان ما تنشط لتعطي خلايا جلدية تعويضية عن المحترقة، وهذا العطاء خلق، وهذا الخلق هو العنصر الحيوي في الخلية (أي في الفكرة)، فالفكرة الفرعية (أي خلية المنشأ) التي اعتبرت أصلا وقاعدة لا تكون كذلك إلا إذا كانت خلاقة، والأفكار الخلاقة جديرة بالاهتمام والعناية والرعاية، جديرة بالتبني والاعتناق، لأنها مفعمة بالحياة، تفور نشاطا وديناميكية، وبهذه الصفات نجعل الفكر المنبثق عنها يأخذ صفاتها، فالحياة فيها، والنشاط ركابها، والبلورة ماؤها، والنقاء عنصرها، والصفاء جسمها، والنفع والإمتاع غايتاها.. والأفكار الممدرية أفكار نقية صافية مبلورة، إنها كالماء المعين لا يغور أبدا، إنها الراوية عند الحاجة، لا يظمأ في حضورها ظامئ، ولا يموت في وجودها صاحب غلّة، تصفي جسم الإنسان وترويه وتنعشه، تصفي عقل الإنسان من الأفكار الساقطة، والمفاهيم الفاسدة، تجعل أفكاره ومفاهيمه تأخذ شبهها من الأفكار الفرعية الممدرية، فإذا باشر الممدري معالجة اقتصادية في النظام الاقتصادي مثلا، فإنه لا يدين الناس بزعم الخطأ في ولادتهم التي لم تكن منظمة ولا مقننة من طرفهم كما يصورها الطرح الحداثي الخبيث بزعمه أنهم نفايات بشرية، فهم بريئون ماداموا قد قدموا إلى هذه الدنيا على غير إرادتهم. يبدأ المعالج الممدري في الاقتصاد كنظام بفرض إشباع الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومأوى لكل إنسان على كوكب الأرض، يشبع حاجة الفرد فردا فردا بصرف النظر عن دينه ولونه وملته، ثم يجعل للإشباع نصيبا في الحيوان والطير والنبات، فمن حق النبات أن يسقى عند الحاجة مع القدرة على ذلك ووفرة المياه، فلو قدر الإنسان أن يسقي أرضا أصابها الجفاف لفعل، لأن ذلك حق من حقوق تلك الأرض عليه، هذا فضلا عن الحيوان والطير غير الطليقين. ويسعى إلى إشباع الحاجات الكمالية بتمكين الإنسان منها فردا فردا بقدر استطاعته وطاقة منافسته. ويسعى إلى رفع مستوى المعيشة لا مجرد رفع، بل بالحرص على ضمان انتفاع كل الناس منها، ولا تستثنى الكائنات الأخرى والبيئة. ويسعى إلى ضمان حق العيش لكل الناس، فهم أبناء كوكب الأرض، وهذا الكوكب هو الذي خول لهم حق العيش فيه مثلما لغيرهم كيفما كانوا. ويسير الممدري على هذا النهج في تعامله ومعالجاته للشأن الاجتماعي والسياسي، وفي الحكم والقضاء والتعليم وغير ذلك، يسير هكذا، ولسوف يحقق تقدما كبيرا، وحياة راقية في ذوقها وشكلها، في تبادل العلاقات والمصالح، سوف ينتج لباسا يأتي على مقاس الجسم الذي يراد له ارتداء اللباس، سوف يظهر جمال بديع ورونق رائع، سوف يأتي كل ذلك موافقا للفطرة الإنسانية، مقنعا للعقل السليم، مالئا القلوب بالطمأنينة. والممدري في سعيه نحو إظهار ممدريته يصطدم بفكر آخر يعمل أهله على عولمته، وهم حين أدركوا كعادتهم فساد أفكارهم وأنظمتهم هبوا مسرعين إلى اختراع رقاع جديدة لها، فالعولمة التي سعت إليها أمريكا ولم تزل لم تكن سوى أمركة، وهذا لم يعد خفيا على أحد، وهناك اليوم من استبق الزمن فشرع يدعو إلى عولمة الديموقراطية، وذلك فيما أسماه عصر الرشد الجماعي كما يدعو له كتاب: عصر التوافق للأكاديمي البريطاني النشط جورج مونبيوت الداعي إلى برلمان عالمي أساسه البشر وليس الدول ليعطينا في النهاية عولمة مبرطنة (نسبة إلى بريطانيا). وهناك دعوة أخرى لصاحبها جابي أرماندل في كتابه: العولمة والفقراء، يعرض فيه آراء المؤيدين للعولمة والمخالفين لها، ثم يستقر في النهاية على ضرورة المساهمة العاجلة في النمو الاقتصادي للدول النامية ظنا منه أن الدول النامية ليست راشدة ما دامت لم تحقق لنفسها ما حققته الدول المتقدمة، ولم يلتفت ـ أو هو يتجاهل ـ إلى الحجر والحظر الممارس بشكل صفيق على كل نشاط من شأنه أن يحقق التحرر في الدول النامية، ليس من منظور القائمين على الاقتصاد الغربي الذي يراد له العولمة مع الفكر والثقافة سوى أن تظل الدول النامية أسواقا مفتوحة للاقتصاد الغربي ومشاريعه. فالممدري ليس إلا ذاك اليقظ على أساليب الخداع الممارسة في حق البشرية، يقظ على أولئك الذين يعتبرون قيم اليوم قيما، وفي الغد يتنكرون لها، لا يثبتون على رأي إلا إذا حقق لهم مصلحة ولو كانت على حساب شقاء الملايين وتعاستهم. وما دامت الأفكار الفرعية ناشئة عن الفكرة الكلية، مثلها مثل الخلايا الناشئة عن البويضة الأم، فإن عمل الفكر الفرعي ليس دائما التخصص، أو أخذ اتجاه معين، لا يحيد عنه أبدا، بل للفكر الفرعي أن يتنوع هو ذاته، وينوع غيره لأن ذلك لن يضيره، فهو مربوط بالأصل، وهذا التنوع والتنويع ليس معناه ركوب ما بعد الحداثة، فهذه المطية مهترئة واهية، ليس معناه التحول عن الحقائق ومعاداتها بحجة البحث عن غيرها، لا، فالحقائق تثبت لأن معناها في المصدر الثبات، ومعناها في الواقع الثبات أيضا، وحتى المتغير حقيقته الثبات، كما الثبات حقيقته التغير، يكون ذلك في الحالات والهيئات التي يقطعها في تحوله وتغيره، ألا ترى معي أن الذي تغير قد ثبت ولو لثوان معدودة على حال وهيئة أظهرته في الواقع؟ ألا يدل ذلك على حقيقة الثبات في كل شيء، والتغيير في كل شيء أيضا؟ أليست المسألة مسألة ملاحظة أزمنة وحالات وهيئات تظهر وتختفي؟ تقوم ثابتة بعض الوقت، ثم تثبت على وضع آخر هو التغيير؟ والتغيير نفسه ألا يتغير؟ فالإنسان جنينا حقيقته وهيئته وحالته في الواقع ثابتة لفترة زمنية معلومة، والإنسان رفاتا حقيقته وهيئته في الواقع ثابتة لفترة زمنية معلومة، وهكذا.. إن التنوع المقصود، والتغير المنشود ما هو إلا محاكاة لسر الخلق، فالحياة تبدو متغيرة، والكون يبدو متغيرا، والطبيعة التي هي مجموع الأشياء والأنظمة تبدو متغيرة، ولكن ذلك لا يشفع في التخلي عن الحقائق إلا إذا ثبت أنها ليست حقائق، وهذا منشود لا ينكره عاقل، والرجوع إلى الحق خير من البقاء في الغي والظلم والتمادي في الباطل. وما نود لفت النظر إليه هو اصطناعنا للهيئة والحالة التي تحدثها الخلايا عند تحريضها لتعطي خلايا لا تنتمي إلى نسيجها، ولكنها أولا وأخيرا خلايا جسم إنسان معلوم يجمع في ذاته كل الخلايا، فكذلك الفكر الممدري الذي يقعد عليه، يعطي أفكارا مختلفة عن طبيعة لونه وخلقه، ولكنها أولا وأخيرا أفكار للإنسان، ولخدمة الإنسان، ولإمتاع الإنسان، ولتبصير الإنسان.. وعند هذه النقطة بالذات يمكن أن لا يلاحظ أي أثر لانبثاق الفكر الفرعي عن الفكر المنشئي، وأعني بالفكر المنشئي الفكر الفرعي المنبثق مباشرة عن الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة وعما بعدها، يمكن للفكر الفرعي الذي لا يظهر فيه شيء من الشبه للفكر المنشئي، ولا يظهر فيه أثر له عليه، أقول: يمكن مع ذلك قبوله، ولكن بقاعدة أخرى تفرضها النظرية الممدرية، تفرضها الفكرة الأم، إنها فكرة ملاحظة عدم التناقض مع الفكرة الأم، فما لم يكن متناقضا معها يأخذ حكم البناء، وليس حكم الانبثاق، وهذا مطلوب ومرغوب فيه في النظرية الممدرية. فالنظرية الممدرية باعتمادها قاعدة فكرية ضخمة لبناء الحياة وأنظمة الحياة، للتعامل مع الأصول والفروع، مع العقل والعاطفة، مع الفكر والثقافة، مع العلم والأدب، مع كل شيء حضر أو غاب، تصوره الإنسان، أو لم يتصوره، تظل نظرية جامعة مانعة، تجمع الماضي كله فتحتفظ به لأنها تعتبره حاضرا، وتأخذ المستقبل كله ولو لم يكن قد حضر بعد فتجعل منه حاضرا أيضا، فهي بالنسبة للحياة والحوادث يوماوية، فما فات لم يضع أو يمحى، وما هو آت سيأخذ صفة الماضي ويخضع لما خضع له. فكلامنا الذي ننطق مثلا يحضر حيزنا، ثم يغيب، ولكنه يظل في حيز كوكبنا ربما يأخذ لنفسه سياحة حتى حين، ولو تمادت الدول في زيادة ثقب طبقة الأوزون وهو جريمة بحق الأجيال القادمة، ثم خرجت أصواتنا إلى خارج غلافنا الجوي، فإنها ستظل في مجموعتنا الشمسية، وإذا خرجت من مجموعتنا الشمسية فإنها ستظل في مجرتنا وإن وإن.. فإنها ستظل في الكون لن تخرج عنه، وبناء عليه فإن ملايين السنين القادمة التي ستحياها البشرية، وليس في ذلك مقارنة بينها وبين قرب الساعة التي تعني فناء الكون، لأن الكون فان لا محالة، ويمكن تقدير أجل فنائه المحتوم علميا، وعقليا، فلا يبقى إلا أن يفنى حتما، ولكن ذلك لا يعني من جهة أخرى معرفة ساعة فنائه على وجه الدقة والتحديد، لأن فناءه إن تحقق على هذا النحو، بطل القول بأن علم الساعة غيب لا يعلمه أحد، فكان أن ثبت القول بفنائه ببلوغه أجله، ثم تجاوزه ليتحقق القول بأن علم ذلك يستأثر به الخالق وحده، أو يفنى قبل بلوغه أجله ما دامت الساعة مرتبطة بالمباغتة، والمباغت لا ضرورة أن يأخذ بجميع أسباب وصوله إلى المباغتة، ستشهد البشرية جمعا لما انتشر، ثم عزله وفرزه والاستمتاع به والاستفادة منه والتحقق منه، فسنعمل (لأننا يوماويون) على عزل أصوات ناطقة لبشر مضى حتى نتعرف عليه، سنتعرف سمعا على صوت محمد صلى الله عليه وسلم وبكل سهولة نظرا ليسر ذلك فيما عندنا من قرآن وسنة، ثم نخلص من الأفكار الظنية، ونسلم من الخلاف، وليس في هذا دعوة للإبقاء على الخلاف في شأن ظنية ثبوت بعض المختلفات حتى ذلك الحين. أما ما كانت طبيعة دلالته الظنية الاختلاف، فسيظل كذلك ولو ثبت يقينا، لأن العربية حمالة أوجه، فكذلك القرآن العربي، كما سنتعرف على صوت عيسى، وكلامه، وهو يتكلم الإنجيل، ويوجه أتباعه إلى اتباع رسول يأتي من بعده، وكذلك موسى، وغيره من الأنبياء، وليس هذا محصورا في الأنبياء فقط، بل يسري على البشرية جمعاء، غير أن الأنبياء والرسل بسبب ما بين أيدينا من أقوال منسوبة إليهم، منها ما تواتر باستناده على المتواتر كالقرآن والسنة المتواترة، ومنها ما تكاد تكون متواترة، يسهل الأمر في التحقيق، ولا يعجز ذلك تناول التاريخ المضبوط والمنقح.. والتقعيد لكل شيء يكون بالعقل. والأدب يقعد له بهذه الملكة التي توجد في ذات محدودة بغرض تحسس محدودية العقل مهما تمادى. فـ((العقل البشري يوجد في ذات محدودة، وعليه فإنه لا يقوى على تناول كل شيء خصوصا غير المحدود)). التفكير بالنصوص. بحث أكاديمي – للمؤلف، صفحة: 36، الطبعة الأولى سنة 1999م طنجة، منشورات الجيرة. والغيب نفسه يقعد له بالعقل، لأنه يبنى عليه، فتكون المغيبات على هذا النحو حقائق في وجودها الموضوعي، وليس الذهني، أو هما معا، إنها كانجذاب الأجسام إلى بعضها بشيء نسميه مغناطيسا، وهو غير ملموس. وعمل العقل لا يظهر، بل تظهر نتائجه، فمن منا يستطيع معرفة تفكير الآخر دون قرينة؟ فهذا ليس محسوسا إلا بالإحساس الفكري، اللهم إذا عرضنا الإنسان لأجهزة قياس عمل الدماغ، وطلبنا منه إحداث التفكير، فهذا إن حصل، وهو حاصل في بحوث علماء الأعصاب؛ ليس موضوعنا، فيكون ما يعمل على جذب الأجسام شيء، أو طاقة موجودة، وهي حقيقة، ويكون عمل العقل شيء يحصل، أو هو عملية قائمة، فكذلك الشأن بالنسبة إلى المغيب عنا الله جلت قدرته. وأما المغيبات الأخرى، كالجنة، والنار، والملائكة، ومواطن الأرواح بعد خروجها من الأجساد، إلى غير ذلك، فإنه لا سبيل إلى الحكم على وجودها إلا بالاستناد على الواقع كشرط أساسي في العملية العقلية التي توصلنا إلى التثبت من وجودها، وعند المحاولة نجد أنه لا واقع لها، ولا أثر يمكن الاستدلال به عليها. صحيح أن النتيجة المنطقية هي طرحها، ورفض الاشتغال عليها، ولكن هناك ما يشير إلى وجودها، وهذا الذي يشير إليها كتاب ثبت أنه كلام الله يقينا بالعقل، حصل ذلك بصراع فكري في مناقشة على شكل حوار بين بطل الرواية مقداد، وأعوان روح مريم الأثيوبيين في رواية: انتفاضة الجياع، الطبعة الأولى سنة 1999م، منشورات الجيرة، طنجة. وكذلك في الرواية الممدرية: نساء مستعملات، فصل: ممدرية الكون، صفحة: 64 ـ 72. فهذا الكتاب الذي هو القرآن الكريم كوَّن بذلك دليلا قاطعا عن المغيبات، ومادام قد ثبتت حقيقة كون القرآن كلام الله بالعقل، فإن ما ورد فيه كله يكون مبنيا على العقل، ولو لم يدرك الإنسان ماهيته، لأنها كماهية الروح التي يجزم الإنسان بوجودها فيه، وفي غيره من المخلوقات، ولكنه لا يعرف كنهها، وهذا لا يفسد له عقله، بل يصلحه له، ويضمن له به توجها وفق معرفة غير استنتاجية، وفق معرفة توقيفية من خالقه وبارئه تؤكد حتمية عجزه واحتياجه واستناده إلى غيره. والتقعيد أسفل كل شيء. التقعيد وضع شيء ليوضع عليه شيء آخر. والقواعد إما أن تكون مادية كقواعد الدور والبنايات.. أو قواعد معنوية وروحية وفكرية وأدبية.. والأفكار التي يمكن التقعيد عليها كثيرة، وهي بذلك أساسية، ولكن بالنظر إلى ما قبلها ووجوده تعتبر فرعية. فالقاعدة الأصل يشترط ألا يكون قبلها غيرها، وهي وجهة النظر الكلية، هي المادة الخام لبناء الفكر والمعارف والآداب والعلوم عليها، وبذلك تكون أولية، وأما غيرها مما ينبثق عنها ويبنى عليها من الأفكار التي بقابلية بناء فكر آخر عليها فتكون أساسية هي الأخرى يمكن البناء عليها، ولكن مع الوعي التام على أنها ليست قاعدة فكرية أولية، إذ هناك ما يسبقها. والتقعيد على هذا النحو تصلح له الأفكار الأدبية الكبرى، وتصلح له المعارف الفكرية المعتبرة، والمعلومات العلمية الموثقة، والمعاني الفلسفية الراقية.. ولا تصلح لأديب أديب، وأديب، لا تصلح له لأنه نصف إنسان بنقصان لافت، يحتاج إلى ما يكمل نصفه حتى يستقيم على حقيقته الإنسانية، فهذه الأخيرة تقضي بوجود عقل ووجدان في ذاته، والعيش للوجدان والمشاعر والعواطف فقط نقص كبير، وهذه النماذج من الأدباء تمتلئ الساحة بهم، والأمر لا ينحصر في أدباء دون آخرين، إذ هذا يكاد يعم، الشيء الذي يعطي صورة عن تفاهة عيش الكتاب والمتلقين "الممتع" بالأدب هذا، فالأديب إن لم يأت بملء نصفه الناقص بالفكر ليكون مفكرا بهذه الزيادة، فإنه لا يمتع قراء وكتاب الأدب الممدري، لأن هذا الأخير أدب يوماوي يركب يومه إلى ملايين السنين القادمة.. كما أن التقعيد على النحو المذكور لا يصلح لمفكر لا قلب له، لا يصلح له، لأنه نصف إنسان بزيادة، يحتاج إلى ما يكمل نصفه حتى يستقيم هو الآخر على قاعدة الإنسانية كمعطى واقعي لا مجال لإنكاره، فالإنسانية حقيقة مشتركة بين الناس، فهي قاعدة لتحقيق إنسانيتهم، وتحقيقها يقضي بالعيش للفكر والشعور مع زيادة في الفكر لاكتمال الشخصية الإنسانية، لا عيب من تآكل الأدب على حساب الفكر في شخصية الإنسان. والمفكر يعتمد لغة غير التي يعتمدها الأديب. فلغة المفكر العقل. ولغة الأديب العاطفة. والأدب لا يؤدي الحقائق، ولا يؤدي الأفكار بقصد إثارة العقول وخدمة المعرفة، فهو (أي الأدب) لا يعبر عن واقع معين، بل يعبر عن الذات وأحاسيسها. والفكر لا يوقظ العواطف ويثيرها، ولا يحرك الانفعالات، ويهيج المشاعر، وإذا تحقق من ذلك شيء، قل، أو كثر، فإنه لا يستهدفه. ((وعند تأملنا للنصوص الأدبية نجد أنها ليست لتعليم الناس الأفكار، بل لإثارة مشاعرهم، وإذا حصل وتعلمنا منها فكرة أو أفكارا فإن تعلمنا لا يكون منها، بل يكون من جهدنا، وتوظيفنا للمعلومات الموجودة لدينا أثناء قراءتها أو سماعها، لأن عناية الأدباء ليست عناية بالأفكار من حيث صحتها أو خطئها، بل من حيث التصوير والتعبير حتى الوصول إلى الروعة والإثارة)). التفكير بالنصوص، بحث أكاديمي، الطبعة الأولى سنة: 1999م صفحة: 16. إذن فالتقعيد يخدم الحقائق ويجليها، وعليه لا بد من ممارسة الفكر للوصول إلى ذلك، ومن هنا وجب على الأديب أن يكون إنسانا سويا، لا أن يكون بنصف واحد يفتقد للنصف الهام. لا بد أن يكون شخصية تجمع بين العقل والمشاعر، تبني كيانها بالعقلية والنفسية حتى تظهر وتتميز شخصية الإنسان. وتميز الشخصية لا ضرورة أن يكون في الإنتاج الفكري أو الأدبي أو غيره وإن كان ذلك هو المطلوب في الإبداع الحقيقي، فتكرار الآخر واجترار ما لدى الآخر فعل حضاري لا ينكر، ولكن أهم منه التجاوز المبدع، والتفرد الظاهر. وهناك فعل ثقافي لا أعتبره فعلا حضاريا، الأمر يتعلق باستظهار تبنيٍّ للتناقضات، إلى درجة أن أباح لنفسه أحدهم التحول عن رأيه مجرد أن وطئت قدمانا الرصيف ونحن خارجون من المقهى، وحين سألته عن علة ذلك، وهل هو تحول مدروس، وتصرف مسبوق بإعمال العقل، وسلوك دفعت إليه مفاهيم جديدة ظهرت؟ كان الجواب، لا، ولكن يحق لأي كان؛ ذلك، فلا شيء يثبت على حاله. وهذا النوع من المثقفين والكتاب متثيقفون متكيتبون يطغى عليهم النفاق، ويحكمهم التذبذب رغم غزارة معلومات بعضهم، وهم بذلك يعكسون حقيقة كونهم غير ناضجين، وغير مؤهلين بعد لملك القواعد، وممارسة الاقتعاد، والحوار معهم حوار الطرشان، لا تعرف أي لباس يرتدون، ولا أي مذهب يذهبون، فإذا لقوا هؤلاء قالوا إنا معكم، وإذا لقوا أعداءهم قالوا إنا معكم أيضا. هؤلاء معضديون، رماديون يعيشون المعضدية والرمادية، إنهم معاضدة رمامدة بثقافة المعضد وثقافة الرماد. ويعجبك من المثقفين والكتاب أصحاب المبادئ والرؤى والمواقف وإن اختلفت معهم، وكنت في مقابلهم، تحس فيهم الحياة الثقافية، والحرارة الفكرية، وجريان المعارف في عقولهم وتأثيرها على نفسياتهم، فمعهم يحيا الفكر، وتحيا المعرفة، معهم يصقل العقل ويستنير. ومثل هؤلاء بصرف النظر عن نوعية اختياراتهم يمكنهم التقعيد للأدب المستقبلي، فقد ينتجون روايات وقصصا ومسرحيات وأشعارا تصور حالة القارة الإفريقية وهي مقترنة بالقارة الأوروبية مثلا، لهم أن يخرجوا للأجيال القادمة أدبا يصور الحوادث والظواهر والشخصيات والحالات التي يكون عليها كوكبنا بعد مليون وأربعمائة ألف سنة وقد غاب بوغاز جبل طارق وسُدّ المضيق والتقت اليابستان. ما يكون عليه حال الناس مع دولهم إن كانت هنالك دول، أو حكومات إلكترونية؟ .. لهم أن يقعِّدوا لأدب يأتي بعد ملايين السنين تشيخ حينها الشمس، ثم يغيب في حياة الناس القمر، يغيب ويضمحل لكبر الشمس وتمددها لتتسع دائرة مغناطيسيتها فتبتلع القمر وتذهب بنوره من السماء، وتغيب للناس الأهلية، ثم كيف يواجه الإنسان الموقف؟ ومن يجيب عن سؤاله إذا سأل عن المفر من الأحداث العظام؟ وهل يبقى دين، أو يمارس التزام من زكاة وصلاة وصيام؟ لهم أن يصوروا لنا خروج الإنسان عن المجموعة الشمسية إلى نجم آخر بتابع واحد أو أكثر تتوفر في واحدة منها شروط الحياة ليعيش الإنسان كجنس مستمر لا يفنى ما وجد الكون، أو وجدت مجموعات نجمية بها شروط الحياة، لا ليتحقق أن الإنسان كفرد هو الذي يفنى لا جنسه، فهذا ممتنع عقلا، لأن الكون مثل الإنسان، يمر في حياته كما يمر هو، وفي النهاية يفنى، ولا داعي للمقارنة بين الأعمار. لهم أن يصوروا لنا إنسانا يعيش بمعرفة عالية عن حقائق نفسه وكيف استطاع استخدامها؟ كيف يسخر طاقة عظمة من عظامه بحجم علبة كبريت تعادل تسعة أطنان؟ هل سيدفع حافلة، أو سيارة، أو قاطرة؟ لقد فعل. هل سيحملها بيديه ككينكونك؟ نعم. اليوم يجر الناس ما ذكر بأسنانهم وشعورهم، ومنهم من حمل من وصلات شعره على متن مروحية قطعت به البوغاز من حين قريب حضرت مهرجانه شبيبة طنجة ورجالاتها، هل سيشاهد الإنسان (خوارق)؟ لهم أن يصوروا لنا مصانع ومعامل للأعضاء البشرية. لهم أن يصوروا لنا كيف تقطع يد إنسان أو رجله، ثم يذهب لشرائها من محل تجاري يحتفظ بمثلها في فريكو ويذهب بها إلى الجراح فيزرعها له. لهم أن يصوروا تجارة الأجنة. لهم أن يصوروا اهتداء الإنسانية: ((إلى اكتشاف عقار جديد عبارة عن دواء وظيفته المحافظة على الأمراض أو الميكروبات التي دخلت جسم المريض، ولكنه يعمل على ألا يدخل مكروب آخر إلى الجسم، وبتعبير آخر دواء يشبه اللقاح أو التلقيح لمعظم الأمراض مع الاحتفاظ بالبعض الآخر الذي لا يشكل خطورة على صحة المريض)) رواية: انتفاضة الجياع، صفحة: 100 – 101 الطبعة الأولى يناير 1999م، منشورات الجيرة، طنجة. لهم أن يصوروا صراع الأبناء مع آبائهم بسبب تصرفهم في جيناتهم. لهم أن يصوروا طفلا يحاجج أباه ويعاتبه على لون عينيه الذي لم يرتضه، على طوله الذي يرفضه، على كثير من التصرفات التي ستطال الأجنة التي لن ترضاها بعد التحاقها بالصبا والطفولة، أو الشباب. لهم أن يصوروا إنسانا مستنسخا يعيش بلا أبوة وبلا أمومة، لا تنشأ له أخوة وعمومة وخؤولة، يحيا مفصولا عن أية هوية. كيف تكون أفكار الناس ومفاهيمهم بسبب هذا الواقع؟ كيف تصبح الحياة عند المستنسخين في عالم الأدب والفكر والفلسفة؟ كيف تكون طبيعة الإنسان؟ وهل ستتغير فطرته؟ وهل سلام على وجدانه؟ والنظرية الممدرية نظرية تتكشل على عدة أشكال قد لا يكون لها حصر، فهي الامتداد الذي يأخذ لنفسه أشكالا قد تظهر للعين المجردة وربما لا تظهر، تتكشل في الأذهان والأدمغة وفق عملية فكرية ناضجة، وتتشكل في الواقع المحسوس وفق علاقات قائمة بينها وبين الوجود، فتارة تكون على امتداد عمودي مثلما نشاهد في السماء تعامد جبال البرد، وتارة أخرى تكون أفقية مثلما نشاهد الشمس في الأفق الغربي وهي تغطس في المحيط، يكون الامتداد على شكل منحني ودائري وزاوي ومنعرج ومنحرف ومستقيم ولولبي وحلزوني ومنكسر.. إن النظرية الممدرية بقيامها على مكونين اثنين هما: الامتداد، والدائرة، تعلن عن ركوب المحاكاة، محاكاة مبدع الكون. فالخالق جلت قدرته خلق كونه، وحركه بما فيه، وبمن فيه، وجعل أجرامه تسبح في أفلاكها داخل إطار هو الكون، هو الوجود.. فكذلك الممدري مع فرق شاسع غير خاضع للمقارنة بين من يخلق من عدم، ومن يخلق الشيء من الشيء والذي به تنأى عنه صفة الألوهية والربوبية.. هذا الممدري هو نفسه يخلق كونه الصغير، ويحرك أجرامه الأدبية والفكرية في أفلاكها، ويظل يحركها، وسيظل ما دام ممارسا لعميلة التفكير، لأنه يتوخى الإبداع. وإذا كان مقرا بحتمية عدم الوصول إلى مستوى الخالق والبراعة في خلق جمال يبز به جمال خلقه وخالقه، فإنه يقر أيضا بأنه ما دام جزءا من جمال فعل الخالق، أودعه فيه، وجعله منه، فإنه لن يعدم مجالا وفسحة وكونا لصناعة جماله فيه، ولكن على نسقين طقوسيين اثنين: واحد مسطري لا خيار للإنسان فيه، والثاني إطلاقي على قدر قدرة الإنسان العقلية الجبارة في إنتاج الفكر والأدب والعلم والثقافة، في إنتاج الجمال، والجديد الحياتي.. وفي هذه الدراسة لا أباشر بها معالجة الفكر والعلم والفلسفة وغير ذلك إلا على نحو يظهر رسما للخطوط العريضة للنظرية الممدرية على أمل الانتقال إليها بشكل تفصيلي في دراسة أخرى. أعالج بالنظرية الممدرية الأدب لأجعل منه أدبا ممدريا يوماويا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ محمد محمد البقاش أديب ومفكر من طنجة؛المغرب. ـ المؤلف: محمد محمد البقاش أديب باحث وصحافي ـ الكتاب: النظرية الممدرية (في الفكر والأدب والفلسفة..) ـ النشرة الورقية الأولى (الطبعة الأولى): 2012 ـ الحقوق: محفوظة للمؤلف ـ الإيداع القانوني: 462 ـ 98 ـ ردمد: 1114 – 8640 ISSN ـ الغلاف: للرسامة الإسبانية من أصل لبناني فاطمة سعيد مغير Fatima Said Moguir C / Castillo Nº 40 Santa Cruz De Tenerife C. P. 38003 _ Telf. Mob: +34650484429 ـ السحب: ناسابريس بطوطة ـ حي بلير 17 رقم: 28B طنجة ـ الهاتف: 0539939071 ـ الفاكس: 0539373489 |
أدوات الموضوع | |
|
|