جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
فلينظر الإنسان إلي طعامه (عبس:24)
فلينظر الإنسان إلي طعامه
(عبس:24) بقلم : د. زغـلول النجـار هذه الآية الكريمة جاءت في أوائل النصف الثاني من سورة عبس, وهي سورة مكية, وعدد آياتها(42) بعد البسملة, ويدور محورها الرئيسي حول قيمة إسلامية كبري مؤداها ان التفاضل بين الناس لايكون إلا علي أساس من تقواهم لله, بغض النظر عن أنسابهم, وإمكاناتهم المادية, ومستوياتهم الاجتماعية, وجاههم, وسلطانهم, وأعمارهم, وألوانهم, وأجناسهم, وهي قيمة أراد الله( تعالي) غرسها في قلوب وعقول المسلمين, ووضحها بواقعة حدثت مع رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في مكة المكرمة حين انشغل بدعوة نفر من زعماء قريش إلي دين الله الخاتم, وأعرض عن صحابي كفيف, من أوائل المسلمين, جاء يسأله في أمر من أمور الدين, فأنزل الله( تعالي) في مطلع هذه السورة المباركة عتابا لرسوله ونبيه الخاتم( صلي الله عليه وسلم) حتي يؤكد الحقيقة التي أنزلها في مقام آخر من محكم كتابه بقوله( عز من قائل):.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات:13) ومن أجل إقرار هذه القيمة الإسلامية التي لايمكن للمجتمعات الإنسانية ان تنصلح بغيرها, أنزل الله( سبحانه وتعالي) من فوق سبع سماوات هذا العتاب الشديد لأحب الخلق إليه, وأقربهم إلي رضوانه, لتبقي هذه القيمة العليا حاكمة للمجتمعات الإنسانية إذا أرادت أن تعيش حسب منهج الله, وان تحقق رسالتها في هذه الحياة. ولذلك حفظ هذا العتاب في كتابه الكريم الذي سيظل يتلي إلي يوم الدين. تذكرة للناس بهذه القيمة الإنسانية التي يجب أن يلتزم بها المسلمون بصفة عامة في مجتمعاتهم, وبصفه أخص في طريق الدعوة إلي الله. وتلمس السورة الكريمة جحود الإنسان لخالقه( سبحانه وتعالي), وتذكره بأصله ونشأته, وتهيئة الله( تعالي) له, وتيسير السبل أمامه, كما تذكره بنهاية حياته الدنيوية بالموت والقبر, ثم إعادة بعثه ونشره ليلقي حسابه وجزاءه في الآخرة, وعلي الرغم من ذلك فإنه لايتقيد بأوامر الله ولايقوم بتنفيذها. وترد الآيات علي هذا الجحود الإنساني باستعراض عدد من دلائل القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان, وإعداد طعامه وطعام أنعامه, وتذكره بالآخرة وأهوالها وشدائدها باستعراض عدد من مشاهدها, وتصوير انعكاس ذلك علي الخلائق فيها الذين سوف يتمايزون إلي مؤمن مستبشر سعيد, وكافر شقي تعيس. وتبدأ السورة الكريمة بالإشارة إلي واقعة الصحابي الجليل عبدالله عمرو بن قيس المعروف باسم ابن أم مكتوم في مكة المكرمة قبل الهجرة, وكان الرجل مكفوف البصر, ولكنه كان مفتح البصيرة فبادر بقبول الإسلام دينا, وجاء في يوم من الأيام إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) يسأله في أمر من أمور الدين, والرسول منشغل في مناقشة عدد من زعماء قريش ودعوتهم إلي دين الله الخاتم, لعل الله( تعالي) أن ينصر بهم هذا الدين الذي كانوا يقفون منه موقف المعاداة والصد, وفي هذه المعمعة كان ابن أم مكتوم يلح في توجيه أسئلته, والرسول( صلي الله عليه وسلم) يتمني لو انتظر قليلا حتي يتمكن من الوصول إلي قناعة مع هؤلاء النفر من رؤوس قريش, ولكن ابن أم مكتوم استمر في إلحاحه بالسؤال, فعبس وجه رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وتولي عنه فأنزل ربنا( تبارك وتعالي) وحيه بهذه السورة المباركة يعاتب فيها سيد المرسلين عتابا شديدا بخطاب الغائب أولا, ثم بتوجيه الخطاب إليه مباشرة والذي يقول فيه( عز من قائل): عبس وتولي* أن جاءه الأعمي* وما يدريك لعله يزكي* أو يذكر فتنفعه الذكري* أما من استغني* فأنت له تصدي* وما عليك ألا يزكي* وأما من جاءك يسعي* وهو يخشي* فأنت عنه تلهي* كلا إنها تذكرة* فمن شاء ذكره* في صحف مكرمة* مرفوعة مطهرة* بأيدي سفرة* كرام بررة*( عبس:1 ـ16) وبعد نزول هذه الآيات كان رسول الله( صلي الله عليه وسلم) يكرم ابن أم مكتوم كلما رآه ومن ذلك الإكرام كان استخلافه علي المدينة المنورة مرتين, وقد كان من المهاجرين الأوائل إليها, واستشهد بالقادسية( رضي الله تبارك وتعالي عنه وأرضاه). كذلك يروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه ماعبس في وجه فقير قط بعد هذه الواقعة, ولا تصدي لغني قط, ويروي لنا سفيان الثوري( رضي الله عنه) أن الفقراء كانوا أمراء في مجلسه( عليه الصلاة والسلام). ومن الدروس المستفادة من هذه الواقعة ألا يخص بالدعوة إلي دين الله أحد دون أحد, فالله( تعالي) وحده هو الذي يعلم أين يكمن الخير, والدعوة إلي دين الله الخاتم يجب أن تكون للناس كافة بغض النظر عن أعراقهم, وأنسابهم, وأجناسهم, وأعمارهم, وإمكاناتهم العلمية والتقنية والمادية, ومستوياتهم الاجتماعية, وغير ذلك من الفوارق الطبقية التي لايقرها الإسلام ولايرضاها ربنا( تبارك وتعالي) أساسا للتفضيل بين خلقه. ولقد كان في إعلان رسول الله( صلي الله عليه وسلم) لهذا العتاب الإلهي الشديد لشخصه الكريم أبلغ الشهادات علي صدق نبوته, ونبل رسالته, وكمال عبوديته لله الخالق, فلا يقوي علي إبراز مثل هذا العتاب إلا نبي كريم, يعرف حقوق ربه عليه, وقدسية الوحي الذي يتنزل إليه بكلمات الله التامات المنزهة عن الحذف أو الإضافة أو غير ذلك من المداخلات البشرية. كذلك كان في إعلان هذا القرار الإلهي في وجه زعامات قريش, والمسلمون في مكة المكرمة قلة مستضعفة في وسط بيئة جاهلية, تقتلها العصبيات العرقية العمياء, وتحكمها الأعراف الظالمة الجائرة, كان في ذلك أعظم الشهادات علي أن هذا النبي والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي. ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, ومؤيدا بتأييده الذي لايضام..!! وتستمر الآيات في تأكيد هذا القرار الإلهي تذكرة( من الله تعالي) لمن شاء أن يتذكر, خاصة أن التذكرة مدونة في صحائف القرآن الكريم, وهي صحف مكرمة عند رب العالمين, مرفوعة مطهرة بتكريم الله( تعالي) لها, وحفظه إياها, وأشارت الآيات إلي أن هذه الصحائف مطهرة من أية مداخلات وضعية, أو تحريفات بشرية, أو محاولات للتزييف, بأيدي سفرة* كرام بررة* وهم الملائكة المكرمون الذين حملوا القرآن العظيم إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم). وإذا ما عاشت المجتمعات الإسلامية بهذه المعايير الربانية التي ترجح أهل الصلاح والتقوي والورع علي أهل الفساد, والاحتيال, والشراهة والطمع, والخبث, والإقبال علي الدنيا, ونسيان الآخرة, والتسلق من أجل الوصول إلي مقامات السلطة, وابتزاز العباد, ونهب المجتمعات, وإذلال الناس, والتجبر علي الخلق... وإذا ما سادت معايير السماء علي معايير الأرض سعدت المجتمعات الإنسانية وأسعدت, ولطالما انعكست الأوضاع, وانقلبت الموازين, وسادت معايير الأرض علي معايير السماء.. اضطربت القيم, واختلت المفاهيم, وساد الرعاع, وتكلم في الناس الرويبضة وصدق الكاذب, وكذب الصدوق.. وائتمن الخائن.. وخون الأمين... فشقيت المجتمعات الإنسانية وأشقت...!! وتتتابع الآيات بعد ذلك في تعجب ساخر من موقف الإنسان الذي يكفر بالله, ويتجاهل ضرورة الإيمان به, ويعرض عن هدايته, ويستعلي علي رسالته وعلي الخضوع لجلاله بالطاعة والعبادة, فتذكره الآيات بأصله ومنشئه, وضعفه في بدايات وجوده, وحاجته إلي رعاية ربه في مختلف مراحل نموه, وفي جميع لحظات وجوده; وقد أعطاه الله( تعالي) العديد من المواهب والقدرات, ويسر له سبل الحياة, وطرق الهداية, والإنسان غافل عن ذلك كل الغفلة, فلا يؤدي ما عليه لله( تعالي) من حقوق, ولايقوم بدوره علي الأرض كما رسمه له خالقه, فما أكفره بنعم الله, وما أجحده بأفضال خالقه عليه...!! وتعبيرا عن هذا الموقف الجاحد من الإنسان الكافر بنعم الله والمتنكر لأفضاله قال( تعالي): قتل الإنسان ما أكفره* (عبس:17) ولفظ قتل هنا دعاء علي الكافر, ولعن له, وهو من الله( تعالي) غضب عليه في الدنيا, وعذاب ومهانة واقعان به لا محالة في الآخرة, فمهما يطل عمره في الدنيا فآخرته الموت والقبر تحت الأرض, والقبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وأمره في بدء خلقه كأمره في يوم بعثه الذي يصفه المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بقوله الشريف: ما بين النفختين أربعون... ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل, وليس من الإنسان شئ إلا ويبلي, إلا عظما واحدا, وهو عجب الذنب, ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وعلي ذلك فإن مصير الإنسان مرهون بيد خالقه من لحظة النطفة المتناهية الضآلة في الحجم إلي خروجه من بطن أمه طفلا, ثم مروره بمختلف مراحل الحياة حتي الوفاة, فالله( تعالي) هو الذي خلقه في صلب أبيه حين شاء, وأخرجه إلي مسرح الحياة حين شاء, وحيث أراد, وهو( سبحانه) الذي أنهي حياته حين شاء, وحيث أراد, وأبقاه في قبره إلي أن يشاء, فإذا جاءت الآخرة بعثه ربه من بين التراب كيف يشاء, وأنشره ليوم الحساب والجزاء, حيث فريق في الجنة, وفريق في السعير, وإنها لجنة أبدا, أو نار أبدا كما أخبر الصادق المصدوق( عليه من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم). وانطلاقا من ذلك فعلي كل إنسان عاقل أن يستعد ليوم الحساب, وأن يجد من أجل النجاة من أهواله, فالحياة ليست للهو والعبث, ولايمكن أن تقضي سدي, فللإنسان فيها رسالة ذات وجهين: عبادة الله( تعالي) بما أمر, وحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها, وإقامة عدل الله فيها. والناس في غالبيتهم الساحقة تغيب عنهم هذه الحقيقة, فيهدرون أعمارهم وهم عن الحق لاهون حتي ينتهي بهم الأجل, فيفاجأون بلحظة الحساب, وما أشقها من لحظة..!! لذلك قال ربنا( تبارك وتعالي): قتل الإنسان ما أكفره*( عبس:17) والله( تعالي) صاغ هذه الآية الكريمة بصيغة الاستفهام الاستنكاري التوبيخي, التقريعي للإنسان الكافر, بمعني ما الذي حمله علي الكفر بالله؟, أو ما أشد كفره بالله مع كثرة إحسان الله( تعالي) إليه, والصيغة في الحالين فيها التعجب من شدة كفره, وتأكيد استحقاقه العقاب بأشد ألوان العذاب...!! ولذلك أتبعت هذه الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي): كلا لما يقض ما أمره*( عبس:23) ولفظة( كلا) هنا بمعني( حقا) إنه لم يفعل ما أمره به الله( تعالي) فاستحق العذاب الذي حذره( سبحانه) منه عن طريق الأنبياء والمرسلين. وبعد ذلك ينتقل السياق إلي استعراض واحدة من آيات الله الكبري في الخلق, ألا وهي إعداد الطعام المناسب, والكافي, واللازم لكل حي علي الأرض, ومن ذلك الإنسان وأنعامه, ولذلك تلفت الآيات نظر الإنسان الجاحد إلي هذه الحقيقة وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): فلينظر الإنسان إلي طعامه* أنا صببنا الماء صبا* ثم شققنا الأرض شقا* فأنبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهة وأبا* متاعا لكم ولأنعامكم* (عبس:24 ـ32). والأمر بالنظر هنا ليس المقصود به مجرد النظر للإبصار, ولكنه النظر للاعتبار, وذلك لأن الطعام ضرورة من ضرورات الحياة, ولازمة من لوازمها, ولايملك إنسان الادعاء بأن له يدا في دورة الماء حول الأرض, والتي لا ينشئها, ولا يحركها إلا الله( تعالي) بعلمه وحكمته وقدرته, وفي ذلك يقول المصطفي( صلي الله عليه وسلم) في الحديث القدسي الذي يرويه عن رب العزة والجلال:... أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي, كافر بالكوكب, وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي, مؤمن بالكوكب( البخاري) وقال( صلي الله عليه وسلم):... ولا يعلم متي يأتي المطر أحد إلا الله...( البخاري) ولايملك إنسان عاقل أن يدعي أن له يدا في عملية إنبات البذور, ولا في شق الأرض لإخراج البادرات النباتية من داخلها..!! ولايستطيع عاقل كذلك الادعاء بأن له يدا في إخراج نوع واحد من أنواع نبات الأرض والذي تقدر أنواعه المعروفة لنا بأكثر من ثلاثمائة ألف نوع. ويمثل كل نوع من هذه الأنواع ببلايين الأفراد, وكل نوع من هذه الأنواع, بل كل فرد من الأفراد له من صفاته الشكلية الخارجية, والداخلية التشريحية والوظائفية ما يميزه عن غيره. وقد ضرب الله( تعالي) لنا في سورة عبس من نماذج النباتات ما شمل الحبوب, والأعناب, والعلف الرطب للبهائم, والتبن الجاف, والزيتون, والنخل, والحدائق الملتفة الأشجار العظام الغليظة, وأشجار الفاكهة, والكلأ, والمرعي, وهذه النماذج المختارة في سورة عبس تكاد تغطي كل ما يحتاجه الانسان وأنعامه ودوابه من المجموعات الرئيسية للمملكة النباتية. وخاتمة عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا, وخاتمة تمتعه بمباهجها وزخرفها هي الموت, والقبر, ثم البعث, والعرض الأكبر أمام الله( تعالي) للحساب, ثم الخلود في الحياة القادمة إما في الجنة أبدا وإما في النار أبدا, وفي ذلك تقول الآيات في ختام سورة عبس ما يلي: فإذا جاءت الصاخة* يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه* وجوه يومئذ مسفرة* ضاحكة مستبشرة* ووجوه يومئذ عليها غبرة* ترهقها قترة* أولئك هم الكفرة الفجرة* (عبس:33 ـ42). والصاخة هي النفخة الثانية في الصور, وسميت بذلك لأنها تصخ الآذان من شدتها وقد استخدمت اللفظة كاسم من أسماء القيامة, التي من تعاظم اهوالها تجعل الإنسان يفر من أقرب الناس إليه, وألصقهم به..!! وبعد الحساب ينقسم الناس إلي أصحاب الوجوه المؤمنة وهي مسفرة, مشرقة, مضيئة, مستبشرة بتكريم الله( تعالي) لها في الجنة, وقد بشرت بها, ووجوه أخري للكفرة الفجرة, الذين كفروا بالله وبرسالته الخاتمة, وخرجوا علي حدوده, وانتهكوا حرماته, وقد علاها الندم والحزن, وارتسمت علي قسماتها بوادر الحسرة واليأس, وغشيتها ملامح الذل والعار, وقد علمت أن مصيرها إلي النار...!! وعلي هذه الوجوه المؤمنة, وتلك الوجوه الكافرة ترتسم مصائر العباد في الآخرة, وبذلك وضع الله( تعالي) لنا في مطلع سورة عبس معيارا من معايير الحق, من التزم به فاز في الدنيا والآخرة, ومن ضيعه شقي في الدنيا والآخرة, ووضع لنا في خاتمة هذه السورة المباركة صورة من صور الثواب والعقاب في الآخرة, فالتقي أول السورة بخاتمتها في تزاوج عجيب يشهد لله( تعالي) بطلاقة القدرة الإلهية التي ابدعت كتابه الخالد الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه بعهده( الذي قطعه علي ذاته العلية) في نفس لغة وحيه( اللغة العربية) منذ أكثر من أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها. من الإشارات الكونية في سورة عبس (1) الإشارة إلي خلق الإنسان من نطفة تحمل كل صفاته, وجميع المقدر له. (2) لفت أنظار الناس إلي جوانب الإعجاز العلمي في توفير كل الأسباب اللازمة لخلق طعام الإنسان, وطعام أنعامه, وطعام كل كائن حي علي وجه الأرض. (3) الإشارة إلي دورة الماء حول الأرض بإنزاله من السماء. (4) الإشارة إلي شق الأرض بواسطة إنزال الماء عليها أو ريها من أجل إعدادها للإنبات, أو شقها بواسطة البادرات النباتية الخارجة منها وكلاهما صحيح. (5) خلق مختلف أنواع النباتات, وإعطاء النماذج الأساسية لها التي يمكن أن تكون تمثيلا كاملا لمجموعات النباتات الراقية المزهرة, التي تشكل الغذاء الرئيسي لكل من الإنسان وأنعامه( من مثل الحبوب, والأعناب, والقضب, والزيتون, والنخل, والحدائق الغلب, والفاكهة والأب). (6) الاستدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة, علي إحياء الأجسام بعد تحللها إلي تراب. (7) الإشارة إلي حقيقة الحياة والموت, ثم من بعد ذلك البعث والحساب. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الثانية فقط من القائمة السابقة, والتي عرضتها السورة الكريمة في آياتها المرقمة من24 إلي32 ولكن قبل ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآيات الكريمة. من أقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي): فلينظر الإنسان إلي طعامه* أنا صببنا الماء صبا* ثم شققنا الأرض شقا* فأنبتنا فيها حبا* وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا* وحدائق غلبا* وفاكهة وأبا* متاعا لكم ولأنعامكم*( عبس:24 ـ32) * ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: فلينظر الإنسان إلي طعامه) فيه امتنان, وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة, علي إحياء الأجسام بعدما كانت عظاما بالية وترابا متمزقا,( أنا صببنا الماء صبا) أي أنزلناه من السماء علي الأرض,( ثم شققنا الأرض شقا) أي أمسكناه فيها فيدخل في تخومها, فنبت الزرع وارتفع وظهر علي وجه الأرض,( فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا), فالحب كل ما يذكر من الحبوب, والعنب معروف, والقضب هو الفصفصة( العلف) التي تأكلها الدواب رطبة, ويقال لها القت أيضا,( وزيتونا) وهو معروف, وهو أدم وعصيره أدم, ويستصبح به ويدهن به( ونخلا) يؤكل بلحا وبسرا, ورطبا وتمرا, ونيئا ومطبوخا, ويعتصر منه رب وخل( وحدائق غلبا) أي بساتين... وغلبا نخل غلاظ كرام,... أو كل ما التف واجتمع... أو الشجر الذي يستظل به... أو غلاظ الأوساط, وقوله تعالي:( وفاكهة وأبا) أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار.. أو كل ما أكل رطبا, والأب ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس( الكلأ والمرعي من مثل الحشيش)...., وقوله تعالي( متاعا لكم ولأنعامكم) أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار, إلي يوم القيامة. وقال بقية المفسرين كلاما مشابها لا أري حاجة لتكراره هنا علي الرغم من فضل كل واحد منهم. من الدلالات العلمية للآيات الكريمات * أولا: فلينظر الإنسان إلي طعامه* (عبس:24) اعتمد الإنسان في طعامه أساسا علي النبات ولذلك تحدثت الآيات التالية عن صب الماء من السماء صبا, ثم عن شق الأرض شقا, ثم عن عدد من النباتات وثمارها تغطي كل مايحتاجه الإنسان وأنعامه من الطعام النباتي, والطعام النباتي يحمل في طياته الإشارة إلي الطعام الحيواني. وذلك لأن الحيوانات التي يأكلها الإنسان تعتمد في غذائها علي النبات وثماره. والطعام هو مصدر الطاقة اللازمة لمختلف الأنشطة في جسم الإنسان, وللمحافظة علي درجة حرارته, ولبناء الخلايا والأنسجة اللازمة في مختلف مراحل نموه ولتعويض الفاقد منها باستمرار. وجسد الإنسان يحتاج لوجوده حيا إلي الهواء, والماء, والطعام, فلو انقطع عنه الهواء لدقائق معدودة هلك بالاختناق, وإذا انقطع عنه الماء فإنه يمكنه تحمل ذلك لعدة أيام, وإذا انقطع عنه الطعام يمكنه البقاء حيا لعدة أسابيع, مع نقص حاد في الوزن, وتدهور في حالته الصحية إن لم يتدارك ذلك بتعويض سريع. ويحتاج الإنسان في طعامه إلي المواد الأساسية التالية: (1) الكربوهيدرات: وهي مركبات عضوية مهمة تتكون جزيئاتها باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرتي الإيدروجين والأكسجين بنسبة وجودهما في الماء; ووجود الكربوهيدرات في كل من النبات والحيوان في هيئات متعددة أبسطها السكريات الأحادية مثل سكر العنب( الجلوكوز), وسكر الفاكهة( الفركتوز), ويمكن للسكريات الأحادية أن تتحد مع بعضها البعض بواسطة روابط خاصة لتكون سكريات ثنائية مثل سكر القصب والبنجر( السكروز), وسكر الشعير( المالتوز), وسكر الحليب( اللاكتوز), أو سكريات ثلاثية مثل سكر الرافينوز, أو سكريات عديدة مثل النشا, والسيليولوز. والنشا يوجد في كثير من النباتات مختزنا في بذورها أو في درناتها وفي العديد من ثمارها, بينما تتكون جدران الخلايا النباتية أساسا من السيليولوز وهو يوجد في القش, والخشب, والجوت, وفي ثمار القطن, وفي المجموعات الخضرية للنباتات. (2) البروتينات: وهي مركبات عضوية تتكون جزيئاتها العملاقة باتحاد ذرات الكربون مع كل من ذرات الإيدروجين والأكسجين والنيتروجين, وقد تحتوي بعض جزيئاتها علي ذرات من الكبريت أو الفوسفور. وتوجد هذه العناصر في سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية, ويبلغ عدد الأحماض الأمينية التي تشترك في بناء البروتينات عشرين حمضا, وترتبط مع بعضها البعض برابطة خاصة تعرف باسم رابطة البيبتيد(PeptideBond), ويلتف الجزئ البروتيني علي ذاته في هيئة لولبية أو حلزونية. وتوجد البروتينات في أنواع بسيطة تتكون من الأحماض الأمينية فقط, وأنواع معقدة( مقترنة) يدخل في بنائها مجموعات من مركبات كيميائية أخري, وتوجد البروتينات في أنسجة الكائنات الحية وفي جبلتها( البروتو بلازم) وتلعب أدوارا مهمة في العديد من أنشطتها الحيوية مثل الدعم والحركة في العظام والعضلات, والنقل والاتصالات في الدم وفي الأعصاب, وفي كتابة الشفرة الوراثية, وفي تحفيز مختلف التفاعلات مثل إفراز الإنزيمات وبعض الهرمونات. (3) الزيوت والدهون: وتتكون أساسا من إتحاد ذرات الكربون مع ذرات كل من الإيدروجين والأكسجين بنسب أعلي من نسب وجودهما في كل من الماء والكربوهيدرات, وبعض الدهون يحتوي بالاضافة إلي ذلك علي عنصري الفوسفور والنيتروجين. والزيوت والدهون لهما تركيب كيميائي متشابه, فإذا بقي هذا التركيب سائلا عند درجة عشرين مئوية سمي زيتا, وإذا بقي جامدا سمي دهنا والدهون تعرف باسم الجليسريدات لتكونها من اتحاد بعض الأحماض الدهنية مع الجليسرين. وتضم الشموع إلي مجموعة الزيوت والدهون تحت مسمي اللبيدات(Lipids). وبعض الثمار النباتية مثل الزيتون, والسمسم, والفول السوداني, وفول الصويا, والخروع, وبذور الكتان, وبذور القطن, وبذور دوار الشمس, وثمار كل من نخيل الزيت, وجوز الهند; وبعض أجنة الحبوب مثل القمح, والذرة, والأرز تعتبر من أهم مصادر الزيوت النباتية. وهذه المركبات التي تدخل في طعام الإنسان من الكربوهيدرات إلي البروتينات إلي الدهون علي قدر هائل من الانتظام والدقة والتعقيد في بنائها, مما يقطع بأنها لايمكن ان تكون قد أوجدت نفسها بنفسها, أو وجدت بمحض المصادفة, ولذلك تشهد لخالقها العظيم بطلاقة القدرة, وابداع الصنعة, وإحكام الخلق, ودقة التقدير, ومن هنا كان لفت نظر الإنسان إلي طعامه....!! * ثانيا: أنا صببنا الماء صبا: وصب الماء إراقته من أعلي, أي إنزاله من السماء بغزارة كالغيث, والصبيب هو المصبوب من ماء المطر, ولولا دورة الماء حول الأرض لفسد كل مائها الذي هو شريان الحياة, والذي يحيا ويموت فيه بلايين الأفراد من الكائنات الحية في كل لحظة. ويقدر الغطاء المائي للأرض حاليا بنحو1,4 بليون كيلو متر مكعب من الماء, يتبخر منه سنويا380,000 كيلو متر مكعب, تعود كلها إلي الأرض ولكن بتوزيع ينشره الله( تعالي) بعلمه, وحكمته, وقدرته. ولايستطيع التحكم في دورة الماء حول الأرض إلا الله( تعالي), ولايستطيع أحد من الخلق أن ينزل قطرة من ماء السماء حيث أو متي يشاء, ومن هنا كانت الإشارة إلي إنزال ماء السماء علي أنها من أوضح دلالات القدرة الإلهية. * ثالثا: ثم شققنا الأرض شقا: والشق هو واحد الشقوق, وهي الفتحات الطولية الواقعة في الشئ, والمقصود بالفعل( شققنا) هنا النحر الرأسي لماء المطر حينما يصب علي الأرض صبا, وقد ثبت أن ماء المطر الساقط علي الأرض يستطيع إحداث شقوق فيها تتراوح أعماقها بين أمتار قليلة والمائتي متر, مما يعين علي تخلل الماءللصخور المنفذة ليكون المخزون المائي تحت سطحها, ويجدد عذوبته ومحتواه من غاز الأكسجين. وكلما اتصلت هذه الشقوق الناتجة عن الحفر الرأسي لماء المطر النازل من السماء كالغيث, مع أشباهها من فواصل الصخور وتشققاتها, ومستويات التطبق في الصخور الرسوبية, وكهوف الإذابة في كل من الصخور الكلسية والملحية وما يرتبط بها من حفر, وممرات, ودهاليز, وأغوار, قد يصل طولها إلي عشرات الكيلو مترات, يفسح مجالا رحبا لتجوية الصخور ولخزن الماء تحت سطح الأرض, وتعظيم دوره في توسيع تلك الشقوق والحفر, بمختلف صور التجوية الميكانيكية( من مثل فعل الصقيع) والتجوية بفعل الكائنات الحية, والتجوية الكيميائية( عن طريق الإذابة, والكربنة, ولإحلال, والتميؤ, والأكسدة) التي تضعف من تماسك الصخر, وتعين علي تشققه وتفتته وتكون التربة من هذا الفتات, كما تعظم من دور الماء تحت سطح الأرض, في المساعدة علي إمداد نباتات الأرض بما تحتاجه من ماء وعناصر غذائية, وهذا المعني يبدو لي أنه الأقرب ـ والله تعالي أعلي وأعلم ـ وذلك لوروده بعد الإشارة إلي صب الماء من السماء صبا. ولكن لا يستبعد أيضا أن يكون المقصود بشق الأرض بعد صب ماء المطر عليها, هو تشقق التربة نتيجة لاختلاطها بماء السماء, والتربة الزراعية يغلب علي تركيبها المعادن الصلصالية التي تتكون أساسا من سليكات الألومنيوم المميأة, والمتراصة فوق بعضها البعض في رقائق دقيقة, وهذا المركب الكيميائي له شراهة شديدة للماء, فإذا وصله البلل انتفش وانتفخ, وارتفع إلي أعلي حتي ترق التربة رقة شديدة ثم تنشق لتفسح طريقا سهلا للسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة المدفونة في التربة لتصل السويقة إلي ما فوق سطح الأرض. ويعين علي ذلك إزاحة الماء لقدر من الهواء الموجود بين رقائق الصلصال, والحركة البراونية للمادة الغروية في دقائق التربة من المعادن الصلصالية, وتنافر الشحنات الكهربية المتشابهة علي أسطح تلك الرقائق مع بعضها البعض, ومع قطبي جزئ الماء المزدوج القطبية, ونشاط كل صور الحياة الكامنة في قطاع التربة وفيها البلايين من الكائنات الحية الساكنة, فإذا وصلها الماء استيقظت ونشطت ومن ذلك بذور النباتات, وبيض بعض الحيوانات ويرقاتها, وبعض البكتيريا والفطريات وغيرها, ومخزون التربة من هذه الكائنات يتراوح مابين الميكروسكوبية منها والفقارية, وقوة إنبات البذور من القوي التي لايمكن الاستهانة بها. * رابعا: فأنبتنا فيها حبا*وعنبا وقضبا* وزيتونا ونخلا, وحدائق غلبا, وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم* ( عبس:27 ـ32) وهذه الآيات احتوت كل صنوف النبات التي يحتاجها الإنسان وأنعامه في طعامهم. فلفظة( الحب) تشمل جميع أنواع الحبوب من مثل القمح والشعير, والذرة, والأرز, وهي من النباتات الزهرية ذات الفلقة الواحدة, والتي تجمع في العائلة النجيلية, وهي أهم عائلات النبات من الناحية الاقتصادية, للإنسان ولأنعامه لأنها تضم كذلك كثيرا من حشائش المراعي, وتغطي نباتاتها أكثر المساحات المزروعة علي سطح الأرض. والعنب يمثل العائلة العنبية التي تضم11 جنسا, وأكثر من ستمائة نوع من أنواع النبات. والقضب هو العلف الرطب للأنعام والدواب كالكلأ والبرسيم. وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع بعد ظهوره مرة بعد أخري. والزيتون ذلك الثمر المبارك من الشجرة المباركة يمثل العائلة الزيتونية والتي تشمل22 جنسا, وأكثر من خمسمائة نوع من أنواع النبات. والنخل يمثل العائلة النخيلية وتشمل نحو مائتي جنس, واكثر من أربعةآلاف نوع من الأشجار والشجيرات والمتسلقات المنتشرة في المناطق الاستوائية والمعتدلة. و(حدائق غلبا) أي بساتين محوطة, و(غلبا) صفة لتعاظم أشجارها والتفافها. و(فاكهة): كل ما يتفكه به الإنسان من الثمار ويتمتع به من طعام رطب لذيذ الطعم خاصة الثمار الحلوة المذاق, لأنه يقال في العربية تفكه بالشئ أي تمتع به, وقيل في الفاكهة أنها الثمار كلها ما عدا العنب والرمان. و(أبا) وهو الكلأ والمرعي, وما تأكله الأنعام والدواب من غير ذلك من العشب ومختلف أجزاء النبات, رطبا كان أم يابسا( كالتبن والدريس), وهو في ذلك أعم من القضب ولذلك ختمت هذه المجموعة من الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي): متاعا لكم ولأنعامكم* ( عبس:32). وهذه الحقائق العلمية لم تعرف إلا في القرن العشرين, وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل أربعة عشر قرنا يثبت لكل ذي بصيرة ان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد بالنبوة والرسالة للنبي الخاتم الذي تلقاه فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, والحمد لله رب العالمين.
__________________
[gdwl][/gdwl]
|
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع: فلينظر الإنسان إلي طعامه (عبس:24) | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
أما وجد الله أحدا أرسله غيرك | معاوية فهمي | موضوعات عامة | 0 | 2019-12-04 04:10 PM |