جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن: (348)- (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*) (القلم:17) بقلم الأستاذ الدكتور: زغلول راغب محمد النجار هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر الثلث الثاني من سورة القلم وهي سورة مكية وآياتها اثنتان وخمسون(52) بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم القلم وبما يسطرون وذلك تعظيما للعلم وتكريما لأدواته. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وفي مقدمتها الإيمان بالله ـ سبحانه وتعالي ـ ربا واحدا أحدا فردا صمدا بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولدا والتصديق بجميع أنبيائه ورسله وعلي رأسهم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبدالله سيد الأولين والآخرين من بني آدم, واليقين بحتمية الآخرة, ومافيها من أهوال البعث, والحشر, والعرض, والحساب والجزاء بالخلود إما في الجنة أبدا, أو في النار أبدا. هذا وقد سبق لنا استعراض سورة القلم وماجاء فيها من ركائز العقيدة, ونركز هنا علي وجه من أوجه الإعجاز في ذكر قصة أصحاب الجنة للاعتبار بما جاء فيها من دروس وعبر. من أوجه الإعجاز الإنبائي والتاريخي في ذكر أصحاب الجنة جاءت هذه القصة في الرد علي أبي جهل( عمرو بن هشام) الذي رفض الإسلام عصبية وتكبرا وتجبرا, وانطلاقا من كونه هو زعيم بني مخزوم من قريش وكون المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ من بني عبد مناف, وذلك كما ورد من قصته مع كل من الأخنس بن شريق, وأبي سفيان بن حرب, حين خرج ثلاثتهم منفردين يستمعون القرآن خفية من تلاوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي مدار ثلاث ليال, وهم في كل ليلة يتواعدون علي عدم العودة خشية أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء من الميل إلي قبول الإسلام دينا. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من القرآن الكريم كان جوابه: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا, وأعطوا فأعطينا, حتي إذا تجاثينا علي الركب, وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتي ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!. وكان من دوافع رفض مشركي قريش دين الإسلام أن التوحيد الذي جاء به هذا الدين السماوي يهدم كل صور الشرك التي كانوا هم وأهل الأرض ـ في غالبيتهم الساحقة ـ قد وقعوا فيها إلي آذانهم حتي ضلوا وأضلوا, وملأوا الأرض انحرافا وفسادا. وكان من دوافع مقاومة كفار ومشركي قريش لدعوة رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عدد من الاعتبارات الاجتماعية التي كان في مقدمتها الخوف من انتزاع الزعامة من بين مشايخهم في بيئة قبلية تجعل للزعامة الاجتماعية كل الاعتبار, وذلك لأن رسول الله ـ مع علو قدره, وشرف نسبه في قريش ـ من قبل أن يأتيه الوحي ـ لم تكن له زعامة اجتماعية فيهم, بينما كانت الزعامات الاجتماعية موزعة بين مشايخ كل من مكة والطائف, وكانوا يخشون من انتزاع تلك الزعامات من أيديهم بانتشار الاسلام, ولذلك قال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي لسانهم: ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف:31) خاصة وأن القرآن كان يتنزل بالدعوة إلي التوحيد الخالص لله ـ تعالي ـ وبتسفيه كل صور الشرك من عبادة الأصنام والأوثان والقمر والنجوم والكواكب والملائكة والجن, وبتسفيه كل الطقوس المبتدعة المرافقة لذلك, ومن هنا بدأ الكفار والمشركون في مقاومة الدعوة الإسلامية, وفي التطاول علي شخص النبي الكريم, وفي تعريض القلة التي آمنت معه إلي أشد ألوان التعذيب, وأغراهم بذلك كثرة أموالهم وأولادهم, ونسوا أن ذلك كله من نعم الله عليهم, وماأشنع أن تقابل نعم الله ـ تعالي ـ بالكفر به وبالتطاول علي رسوله وعلي أوليائه. وللرد علي ذلك يضرب القرآن الكريم لهم مثلا بقصة أصحاب الجنة وهي قصة تذكر بعواقب البطر بالنعمة, وبأخطار مقابلتها بالاستعلاء والكبر بدلا من الحمد والشكر, وتؤكد أن ماوهبهم الله ـ تعالي ـ من أموال وبنين هو من ضروب الابتلاء لهم,, كما ابتلي أصحاب هذه القصة التي تكشف أحداثها عما وراءها من تدبير الله وحكمته, وإحاطة علمه وطلاقة قدرته. وتبدأ القصة بشيخ صالح كانت له جنة في الأرض, عبارة عن بستان ذي شجر يستر الأرض لكثرته, وقد تسمي الأشجار الساترة نفسها جنة أرضية وكان هذا الشيخ الصالح يخرج زكاة ثمار جنته بانتظام حتي وافاه الأجل المحتوم, وجاء أولاده من بعده فأغراهم الشيطان بالامتناع عن إخراج زكاة زروعهم, وأغواهم بذلك, وزينه في قلوبهم, فبيتوا الاستئثار بثمار تلك الحديقة عند تمام نضجها. وعندما قرب موعد جني الثمار اجتمعوا بليل وقرروا الخروج إلي حديقتهم في الصباح الباكر ليقطفوا ثمارها ولا يتركوا منها شيئا لمستحقي الزكاة علي عكس ماكان يفعل أبوهم من قبل وتعاهدوا علي تنفيذ ذلك وأقسموا عليه, وباتوا ليلتهم وقد عقدوا النية علي تنفيذ مخططهم الشيطاني ولكن القرار الإلهي بتدمير جميع ثمار ذلك البستان كان قد سبقهم إليه, فنزل ببستانهم بلاء محيط فأصبح كالذي قد صرمت( أي: قطعت) ثماره فلم يبق منها شيء, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلاَ يَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ* فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ *) ( القلم:17 ـ20). وفي الصباح الباكر نادي بعضهم علي بعض من أجل الاستعداد لتنفيذ المخطط الذي أجمعوا كلمتهم عليه, ثم تحركوا في تستر وصمت كاملين حتي لا يدركهم أحد من الفقراء والمساكين فيتبعهم إلي البستان أملا في الحصول علي شيء مما يجمعون كما كانوا ينالون ذلك علي زمان أبيهم من قبل, وفي ذلك تقول الآيات: (فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ *) ( القلم:21 ـ25). و(الحرد) هو القصد أو التنحي, ومعني ذلك أنهم في الصباح الباكر ساروا إلي بستانهم سرا, متنحين عن قومهم, عازمين علي تنفيذ المخطط الذي رسموه, وعلي تنفيذ ماأجمعوا أمرهم عليه قاصدين ذلك ومصممين عليه, وهم واثقون من قدرتهم علي تنفيذه, وهو جمع ثمار البستان منفردين لا يراهم أحد من الناس, حتي لا يعطوا المساكين من قومهم شيئا منها ولكنهم عندما وصلوا إلي بستانهم لم يعرفوه لأنهم وجدوا ثماره قد قطعت بالكامل حتي لم يبق منها ثمرة واحدة علي فرع من فروعه أو علي الأرض من حول أشجاره, فظنوا أنهم قد ضلوا الطريق إلي بستانهم الذي لم يعرفوه لتجريده من ثماره تجريدا كاملا, ثم بالنظر فيما حولهم من معالم أدركوا أنه بستانهم, وتنبهوا إلي أنهم قد حرموا ثماره جزاء تآمرهم الشيطاني من أجل حرمان المساكين من حولهم من الحق الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم, فقال أرجحهم عقلا, وأعدلهم رأيا من بينهم: هلا ذكرتم الله وتبتم إليه, وتضرعتم له أن يغفر لكم خطاياكم بما بيتم من نوايا سيئة وقررتم حرمان مساكين قومكم من حقهم في ثمار بستانكم الذي شرعه الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهم فنالنا من العقاب الإلهي مانالنا! وكان قد نصحهم من قبل ألا يفعلوا ذلك فعصوه فأخذ بعضهم يلوم البعض الآخر علي ماكانوا قد خططوا له, وأقسموا عليه بقصد حرمان المساكين حقهم الذي فرضه الله ـ تعالي ـ حتي فاقوا من غفلتهم فتابوا إلي بارئهم, واستغفروه, وأنابوا إليه, وفي ذلك تقول الآيات: ( فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ* كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *) ( القلم:26 ـ33). فتاب هؤلاء الأبناء أصحاب الجنة إلي الله تعالي بعد أن رأوا عذاب مانع زكاة الزروع بأعينهم, وتعلق الآيات بأن العذاب الذي نزل بهم بإهلاك ثمار بستانهم وهم في قمة الثقة بقدرتهم علي قطعها وجمعها, فإن إهلاك كفار ومشركي قريش ليس بالأمر المستغرب خاصة وأنهم كانوا قد فجروا في كفرهم وشركهم, وبالغوا في معارضة الإسلام, وفي إيذاء خاتم أنبياء الله ورسله, وفي تعذيب القلة التي آمنت به في بدء دعوته. وماأحوج المسلمين اليوم إلي تأمل هاتين القصتين: قصة أصحاب الجنة الذين قد قرروا عدم إخراج زكاة زروعهم فعاقبهم الله ـ تعالي ـ بحرمانهم من ثمارها, ثم تابوا إليه, واستغفروه, وعادوا عن غيهم, وقصة كفار ومشركي قريش وقد أغرتهم وفرة أموالهم وكثرة أولادهم علي رفض الحق الذي جاء به نبيهم الصادق المصدوق, والأمين المؤتمن عندهم, فتهددهم ربهم بسوق قصة أصحاب الجنة اليهم, تهددهم بأن مايملكون من مال وعيال قابل للزوال في لمح البصر, أو في أقل من ذلك, وفي الوقت ذاته يطمئن المسلمين بأن كل مايرونه علي الكفار والمشركين من آثار النعم في المال والعيال إنما هو ابتلاء من الله ـ تعالي ـ له عواقبه في الدنيا إذا لم يؤدوا حقه ولم يتوبوا إلي بارئهم وينيبوا إليه ويتطهروا من دنس الكفر والشرك ولذلك يتهددهم القرآن الكريم بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ إليهم: (كَذَلِكَ العَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ( القلم33). ومن الدروس المستفادة من قصة أصحاب الجنة مايلي: 1 ـ ضرورة محاربة الإنسان في ذاته لأمراض شح النفس, والبخل, لأن في المال حق معلوم للسائل والمحروم, وأن الذي لايخرج هذا الحق الشرعي معرض للعقاب الإلهي. 2 ـ إن عدم إخراج الحق الشرعي من الزكاة مثل زكاة المال والزروع هو صورة من صور غمط الحق وبطر النعمة الذي لايرتضيه الله ـ تعالي ـ من عباده, وكما يكون ذلك الانحراف عن الحق مرضا في الأفراد يكون في المجتمعات التي إن ضلت عن منهج الله ـ تعالي ـ وانحرفت عنه فإن الله ـ تعالي ـ يبتليها بالحرمان من نعمة حتي تفيق من غيها, وتصحح من أخطائها, وتعود إلي كنف الله. 3 ـ إن من وظائف ابتلاءات الناس في الدنيا هو إيقاظهم من غفلتهم واحياء ضمائرهم من أجل تصحيح مسار حياتهم. 4 ـ إن الابتلاء كما يكون بالشر يكون بالخير, فليست إفاضة المال والجاه والسلطان هي دوما من علامات رضي الله, وليس الفقر والمرض وغيرهما من الابتلاءات هي دوما من علامات سخط الله. 5 ـ إنه علي كل إنسان أن يكتشف أخطاءه في هذه الحياة الدنيا, وأن يقوم بتصحيحها فور اكتشافها وباب التوبة مفتوح لكل تائب إلي أن يغرغر, ومن هنا كان واجب العقلاء من عباد الله أن يداوموا علي الاستغفار والتوبة والإنابة إلي الله. 6 ـ إن تكافل المجتمع الإسلامي هو فريضة من الله يجب علي كل مسلم يقوم بها وأن يساعد علي إحيائها بكل مايستطيع من جهد ومال, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة. 7 ـ إن مايخفي علي العباد لا يخفي علي رب العالمين الذي يكافيء المحسن علي إحسانه, ويجازي المسيء بإساءته, وأن الله سريع الحساب. 8 ـ إن الحرمان الحقيقي في الدنيا هو في البعد عن أوامر الله, لأن الدنيا هي مزرعة الآخرة, ولايمكن للزارع فيها أن يفلح بغير الهداية الربانية. 9 ـ إن الرزق من الله ـ سبحانه وتعالي ـ وكل ماهو من الله لا يمكن أن يطلب بمعصية, بل لابد أن يطلب بتقديم الطاعات له. من هنا كان في استعراض قصة أصحاب الجنة وجه من أوجه الاعجاز التاريخي في كتاب الله لأنه لم يرد لها ذكر في أي من كتب الأولين, ولو أنها جاءت علي عادة القرآن الكريم من أجل الاستفادة بما جاء فيها من دروس وعبر دون الدخول في تفاصيل الأسماء, والأنساب, والأماكن والأزمنة, والله يقول الحق, وهو يهدي إلي سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين, وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين. |
أدوات الموضوع | |
|
|