#1
|
||||
|
||||
هجرة وتاريخ.
" ...... إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) " ( صدق الله العظيم ). في السنة الثالثة عشرة للمبعث كانت الهجرة التاريخية التي اختارها بعد ثاني الخلفاء الراشدين " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه . بداية للتقويم الإسلامي . تقديرا لجلال الحدث الذي كان منطلق تحول حاسم وخطير في تاريخ الإسلام . وعلى امتداد الزمان يحتفل المسلمون حيثما كانوا . بمستهل عام الهجرة , دون أن يفوتهم لمح ما كان لها من أثر بعيد في حركة سير الدعوة الإسلامية ودون أن يخطئهم إدراك ما أعقب تلك الهجرة التاريخية من تغير في موازين القوى بين ح** الله وبين الوثنية الباغية من قريش . وإن فاتهم أو فات كثيرا منهم وعي حركة التحول ذاتها وأعوزهم فهم التفسير التاريخي لتلك الهجرة الفاصلة بين أخطر المرحلتين من عصر المبعث . ولقد مضى عليها أكثر من ألف وأربعمائة سنة كلما بدأت السنة القمرية بهلال المحرم تحركت أقلام تحيي الذكرى الخالدة , وشدت أبصار وقلوب إلى خطوات المهاجر العظيم ما بين مكة ويثرب منذ خرج صلى الله عليه وسلم من بيته في مكة ذات نهار ـ وقد بلغت محنة الاضطهاد أقصى مداها . ص 143 بعد ثلاث عشرة سنة من المبعث ـ فاتجه إلى بيت صاحبه الصديق أبي بكر . وأسر إليه إن الله تعالى قد أذن له في الخروج والهجرة . هتف الصديق : " الصحبة يا رسول الله ..... الصحبة " . وبدأ التأهب لرحيل عاجل : بعث أبو بكر يدعو " عبد الله بن أريقيط " وكان دليلا ثقة خبيرا بمجاهل الطريق فدفع إليه براحلتين يرعاهما لميعاد موقوت . ودعا المصطفى صلى الله عليه وسلم ابن عمه " علي بن أبي طالب " فاستخلفه بمكة ليؤدي عنه ودائع كانت للناس . ثم لما حانت ساعة الرحيل , وقف صلى الله عليه وسلم على مرتفع هناك ببيت صاحبه فرنا إلى البيت العتيق طويلا ثم أشرف على أم القرى فاستوعبها بنظرة حزينة وقال مودعا : " والله إنك لأحب أرض الله إلى الله , وإنك لأحب أرض الله إلى ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " . و تسلل الصاحبان من خوخة في ظهر الدار . فأخذا طريقهما إلى غار يعرفانه في جبل ثور بأسفل مكة , فأقاما فيه ينتظران ما يكون من أصداء الرحيل . وجاء اليوم التالي يحمل إليهما في الغار الأنباء عن خروج نفر من طواغيت قريش لمطاردة المصطفى عليه الصلاة والسلام . وفي الخبر أنهم بلغوا غار ثور فتلبثوا عنده وهموا بأن يدخلوه لولا أن صدهم عنه نسيج عنكبوت على مدخله وحمامتان وحشيتان وقعتا عليه (1) . قال الصديق للمصطفى صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا " . فكان جوابه صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن إن الله معنا " . وفي هدأة المساء من الليلة الثالثة لمقامهما في الغار جاء الدليل يسوق الراحلتين حذرا فأناخ قريبا من فتحته وخرج المصطفى وصاحبه وجاءت أسماء بنت أبي بكر بطعام لهما فلما أعوزها ــــــــــــــــــــــــــ (1) تفصيل الهجرة في الجزء الثاني من : السيرة الهشامية وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري . ص 144 عصام تشد به الزاد إلى الرحل , حلت نطاقها فشقته نصفين , علقت الزاد بأحدهما وانتطقت بالشق الآخر . وسرى الركب في تلك الليلة التاريخية . آخذا طريق الجنوب من أسفل مكة وكان غير مطروق . وودعتهما " أسماء " ذات النطاقين ثم تلبثت تتبعهما بصرها وقلبها حتى أبعدا فعادت إلى بيت أبيها مستخفية حذرة وهي توجس خيفة من المطاردين . ولم تمض لحظات حتى فوجئت بطرقات عنيفة تلح على باب الدار وإذا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام يسألونها في غلظة : " أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ " أجابت : " لا أدري والله أين أبي " . وما كذبت فقد كان آخر عهدها بأبيها مع المصطفى عليه الصلاة والسلام منطلقين من الغار إلى حيث لا تدري أين بلغ بهما المسرى في مجاهل الفلاة . وفجأة بغتتها لطمة فاحشة على خدها من يد أبي جهل طرحت قرطها . وانصرف بمن معه يتهددون ويتوعدون . ومضت أيام وليال لم يكن لمكة فيها شاغل غير تلك المطاردة العنيفة تعدو فيها قريش وراء مهاجر أعزل إلا من إيمانه . وتضاربت الأنباء في الطريق التي أخذها ـ حتى جاء الخبر من يثرب أن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ دار هجرته آمنا . ووعت أذن الزمان ما لا نزال نردده في كل عيد للهجرة من هتاف المدينة ترحيبا بالمهاجر العظيم صلى الله عليه وسلم وما وجد في دار هجرته من مأمن ونصر ...... وفي واقع التاريخ أن الهجرة لم تنه الجولة الفاصلة بين الإسلام والذين تصدوا له بالعداوة والكيد والحرب . وإنما كانت بداية لهذه الجولة الفاصلة . ص 145 بقدر ما كانت أثرا لما سبقها من أحداث وتحركا إلى موقع جديد بعد جولة مريرة وطويلة في البلد العتيق . فإذا كان في الناس من يتصورون أن منافذ الخطر قد سدت بمجرد انتقال المصطفى من دار مبعثه وأن الإسلام صار بمأمن من كيد أعدائه بمجرد أن تلقاه الأنصار في دار هجرته , فالذي يعرفه الواقع التاريخي أن الصدام المسلح بين الإسلام والوثنية القرشية لم يبدأ إلا بعد الهجرة وبدأ معه في الوقت نفسه نضال شاق بالغ الصعوبة والحرج مع عصابات يهود التي تصدت للإسلام بعد الهجرة بكل ما تملك من أسلحة خبيثة ماكرة . والذي تعرفه السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم واجهوا مع الهجرة مرحلة خطرة معقدة كان عليهم فيها أن يخوضوا حربا في أكثر من جبهة وأن يستبسلوا في الجهاد تحت لواء عقيدتهم من حيث يأتيها الخطر . من مواقع مكشوفة سافرة , وأخرى خفية ماكرة . والتحول التاريخي لموقع المعركة لا يمكن فهمه على الوجه الشائع الذي يحسب أن الهجرة عزلت مكة عن مسرح الأحداث . بل تظل مكة في صميم الصراع الدائر مهما ينتقل موقعه إلى شمال الحجاز . ويظل البيت العتيق مهوى أفئدة المهاجرين والأنصار في دار الهجرة كما كان مثابة حج العرب من قديم العصور والآباد . وفي مكة كان مهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ومبعثه . وفيها مستقر الوثنية العربية من قديم موغل في القدم ولم تكن الأرستقراطية القرشية التي ورثت وظائف الشرف الدينية في أم القرى وحققت بها نفوذها وسلطانها مستعدة لأن تتخلى عن نضالها للإبقاء على الأوضاع الموروثة والأعراف الراسخة . والدفاع عن دين الأسلاف وما تجنبت الصدام المسلح مع الإسلام في مكة إلا رعاية لما للبلد العتيق من حرمة جعلته معبد القبائل العربية ومركز مواسمها التجارية . كان في حسابها أن تواجه الخطر بالمفاوضة والمساومة ثم بالإلحاح في إيذاء المسلمين وتعذيب المستضعفين منهم وتحذير كل وافد إلى مكة في الموسم من الإصغاء إلى ما يتلو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كتاب الإسلام ص 146 ثم كان الحصار المنهك وسيلة أخرى من وسائلهم في مقاومة الدعوة والترصد لمن يحاول الهجرة من المسلمين ومطاردتهم حيثما ذهبوا . حتى كان عام الحزن إيذانا بحتمية التماس منفذ من الأسوار التي سدت الطريق . أحس المصطفى صلى الله عليه وسلم بموت زوجه السيدة خديجة وعمه أبي طالب . فراغ مكانهما في دنياه إحساسا شديد الوطأة , حتى لتقول إحدى الصحابيات " خولة بنت حكيم السلمية " رضي الله عنها : " يا رسول الله . كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة " . وثقل عليه شعور بالغربة في بلدع وبين أهله وعشيرته . لكن بيعة العقبة الكبرى هي التي وجهت مؤشرالأحداث نحو يثرب دون أن تنأى بمكة عن مكانها في مركز الثقل لمصير التحول .... احتشدت يثرب في انتظار المهاجر العظيم الذي لم يكن هناك أدنى شك في وجهته برغم ما ذاع من توغل المطاردين في طريق مكة إلى يثرب دون أن يظفروا بأثر منه . اليهود أرسلوا راصدهم يرقب مقدم النبي المهاجر , فأخذ مكانه على مشارف يثرب . وغير بعيد منه كان المهاجرون والأنصرا من أوس وخزرج يخرجون كل صباح بعد الصلاة إلى ظاهر المدينة فما يزالون ينتظرون حتى تغلبهم الشمس على الظلال فيعودوا إلى دورهم . واليهودي قائم هناك في مرصده لا يريم . وإذا هم يدخلون بيوتهم ذات يوم بعد أن لم يبق ظل . سمعوا ليهودي يصرخ بأعلى صوته : " يا بني قيلة , هذا جدكم قد جاء " . وسرت البشرى في أنحاء دار الهجرة فتعالى الهتاف من الأحياء العربية يشق أجواز الفضاء ترحيبا بالمهاجر العظيم . صرخة اليهودي المعلنة بأعلى الصوت عن وصول المصطفى إلى دار هجرته زلزلت الأرض تحت يهود في مستعمراتهم الناشبة في شمال الحجاز : من نوع حي بني قينقاع في قلب يثرب إلى قريظه وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى . ورج صداها حصون الأبلق والوطيح والسلالم وناعم والقموص , وعشرات غيرها من ص 147 الحصون المنيعة والآطام العازلة التي " أقاموها على رءوس الجبال والقلاع ليتحصنوا بها وقت الخطر (1) . وبدأ من اليوم الأول للهجرة تأهبهم لدورهم الخبيث في مقاومة الإسلام . يتيع... |
#2
|
||||
|
||||
وهذه هي الجبهة الأولى التي كان على الإسلام أن يخوض معركته فيها إثر الهجرة . ضد الوثنية القرشية الباغية التي وعت منطق الهجرة أتم الوعي , فانكفأت بعد خيبة المطاردة الشرسة تعبئ قواها استعدادا لصدام . دون أن يتصور أحد من الفريقين أن الهجرة كانت نهاية مريحة للجولة المكية التي استغرقت ثلاث عشرة سنة . أجهدت المسلمين أذى وفتنة ص 149
واضطهادا ومقاطعة وحصارا بقدر ما أجهدت قريشا وأرقت لياليها واستنفدت كل ما لديها من وسائل . وهل كانت قريش بحيث تغمض عينها وتنام , وقد أعجزها بكل عتوها وجبروتها أن تنال من دعوة أذلت كبرياءها وسفهت أحلامها وحقرت آلهتها ؟ أو كانت بحيث تأمن على وجودها الجاهلي ودينها الموروث وهذا النبي المهاجر قد أخذ موقعه الجديد في عاصمة الشمال يهدد طريقها التجارية إلى الشام مصمما على أن ينسخ برسالته دين قومه ويدك صروح وثنيتهم ومعه رجال مؤمنون اشتروا الآخرة بالدنيا فهم يرون الموت في سبيل عقيدتهم شهادة وحياة وانتصارا ؟ هيهات هيهات ..... ولو ترك القطا ليلا لنام . على أن هذه الجبهة لم تكن أخطر ولا أضرى من جبهة ثانية كانت تنتظر الإسلام في دار هجرته . يهود كانوا هناك يرصدون مجرى الأحداث في ذعر وقلق : لقد لبثوا طوال العهد المكي يتعلقون بالأمل في أن ينهك الصراع أهل مكة , مسلمين ومشركين فيخلوا ليهود الطريق إلى أم القرى وفيها أسواق العرب التجارية الكبرى : عكاظ ومجنة وذو المجاز ... لكن بيعة العقبة الكبرى خيبت هذا الرجاء كما خيبت الهجرة أملهم في أن يبقى الإسلام محصورا في البلد العتيق بعيدا عن شمال الحجاز . ولم يبق لهم إلا أن يتربصوا بالإسلام ويكيدوا له . بكل ما وسعهم من خبث وشر ودهاء ... ثم كانت هناك جبهة ثالثة من المنافقين الذين ابتلى بهم الإسلام في دار هجرته ولقي المصطفى صلى الله عليه وسلم من عنتهم ونفاقهم وتخاذلهم أشد مما لقي من طواغيت المشركين . وكان رأس المنافقين في المدينة : عبد الله بن أبي ابن سلول . مولى يهود وحليف الشيطان . ذلك هو منطق الهجرة : بذلا واحتمالا واستبسالا , وتحركا إلى موقع جديد خاض فيه المسلمون معركتهم في الجبهات الثلاث . جهادا بالنفس والمال , حتى جاء نصر الله والفتح .... ص 150 استحدثت " يثرب " بهجرة المصطفى إليها اسما إسلاميا جديدا هو " المدينة المنورة " : مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام . وكان وصوله إليها قبيل الظهر من يوم الاثنين وقد مضت اثنتا عشرة ليلة من شهر ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة للمبعث . وأقام في " قباء " بظاهر المدينة في بني عمرو بن عوف أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس . أسس فيها بقباء أول مسجد في الإسلام . ثم ركب ناقته " القصواء " يوم الجمعة وسط حشد من المهاجرين والأنصار فأدركته صلاة الجمعة في حي بني عوف بن سالم فصلى بالصحابة أول جمعة بالمدينة المنورة . وأرخى العنان لناقته وهي تشق أمواج الزحام ولم يدر أحد يومها أين يكون منزل المصطفى صلى الله عليه وسلم . وكل بيوت المدينة مفتوحة له ترحب به وإن لم يكن له صلى الله عليه وسلم دار هناك . وبدأ الموقف صعبا : كلما مر عليه الصلاة والسلام بحي من أحياء الأنصار بادر إليه الرجال يسألونه سرف النزول فيهم وهو عليه الصلاة والسلام يتحرج من إيثار حي على آخر أو دار على دار فيقول معتذرا شاكرا : " خلو سبيل ناقتي " . حتى إذا مر بحي بني عدي بن النجار توقعوا أن يكون لهم من خئولتهم لأبيه عبد الله بن عبد المطلب حق الحظوة بالشرف الذي رنت إليه كل بيوت الأنصار . هتفوا : " يارسول الله . هلم إلى أخوالك . إلى العدد والعدة والمنعة " . وتلبث عليه الصلاة والسلام برهة يملأ عينيه من هذا الحي ويسترجع ذكريات رحلته الأولى إلى يثرب حين جاءت به أمه " آمنة بنت وهب " من مكة وهو في السادسة من عمره لتزيره قبر أبيه الثاوي هناك ... وتخطى بصره الجموع الزاخرة التي حفت بركابه . وتعلق بطيف أمه ماثلا شاخصا لا يغيب . ومع الذكريات طوى سبعة وأربعين عاما من عمره ليجد نفسه غلاما غض الصبا يعود مع أمه في رحلة الإياب إلى أم القرى ومعهما " بركة أم أيمن " فما قطعوا بعض مراحل الطريق حتى ص 151 وعكت أمه , ثم أسلمت الروح بين يديه في بقعة موحشة من الفلاة بين يثرب ومكة وحملت " بركة " جثمان " آمنة إلى قرية الأبواء فدفنوها هناك . واستأنف الرحلة إلى مكة واجما صامتا محزونا مضاعف اليتم . ومن وراء عشرات سنين أتاه صدى من حشرجة الاحتضار التي روعته في الفلاة مختلطة بهتاف الترحيب وأناشيد الاستقبال . وبنو النجار يكررون دعوته : " هلم إلى أخوالك ... " قال وما يزال يملأ عينيه من ساحة الحي التي كانت ملعب حداثته أياما مع لداته من صبية بني النجار : " خلو سبيل ناقتي " . إلى أين إذن ؟ إلى حيث تمضي به ناقته القصواء . وقد خطت وئيدا تشق الزحام حتى توقفت غير بعيد وبركت في مربد هناك لسهل وسهيل ابني عمرو ... فحط المهاجر رحله , وقام يصلي .... ص 152 على ساحل المربد الذي بركت فيه " القصواء " حين دخل المصطفى دار هجرته . أمر عليه الصلاة والسلام أن يبني هناك مسجده . ثاني الحرمين ومزار المسلمين على مر السنين والدهور . وتنافس المهاجرون والأنصار في بنائه بما تيسر من مواد البناء اللبن والجريد والليف وبعض الحجارة والخشب . والمصطفى صلى الله عليه وسلم يشارك ويوجه ويعين . وقد يمد يده فينفض الغبار عن لحى بعض صحابته داعيا للمهاجرين منهم والأنصار فيرددون دعاءه مرتجزين : لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة ولم يستغرق البناء أكثر من أيام معدودات ومن حول المسجد بنيت تسع حجرات تفتح على ساحته لتكون دار المصطفى المهاجر . وكان مبنى المسجد والحجرات متواضعا بعضه من حجارة مرصوصة وبعضه من جريد يمسكه الطين والسقف كله من جريد . ذكره سبط المصطفى عليه الصلاة والسلام : " الحسن بن على بن أبي طالب " فقال : " كنت أدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام مراهق فأنال السقف بيدي " . وشدت خشبات بالليف فكانت سريرا لمن اصطفاه الله تعالى خاتما لرسله الأنبياء . وغير بعيد من المدينة والحجاز كانت قصور الحكام والأمراء والأغنياء في الحيرة وغسان واليمن وفي فارس ومصر والحبشة تعلو سامقة شامخة ساطعة ببريق البذخ والترف فتخطف أبصار الدنيا عن ذلك المبنى المتواضع الذي لم يلبث سنا جلاله أن كشف كل ما عرفت الدنيا من قصور ل**رى وقيصر وفرعون أو نجاشى وملك وإمبراطور .... ص 153 وفي الأحياء اليهودية الناشبة في المدينة وما حولها من مستعمراتهم شمالي الحجاز دور مشيدة وحصون منيعة تطل على المبنى لنبي الإسلام فيبدو لها فقيرا أسد الفقر . ويلتقط أهلها ما يتلو المصطفى من كلمات ربه في الحث على الإنفاق في سبيل الخير قرضا لله تعالى , فتذيع قالتهم الفاحشة : " إن الله فقير ونحن أغنياء " . في تلك الأيام الأولى بدار الهجرة نزل المصطفى صلى الله عليه وسلم بدار صاحبه " أبي أيوب الأنصاري " ريثما تم بناء المسجد والحجرات حوله . وأما صحابته المهاجرون فنزلوا على الأنصار من الأوس والخزرج وقد آخى صلى الله عليه وسلم بينهم واختار صلى الله عليه وسلم ابن عمه " علي بن أبي طالب " فجعله أخاه . وهكذا ذهب كل أنصاري بأخ له من المهاجرين وذهب على بن أبي طالب بالمصطفى أخا . ودون عهد المواخاة في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة , مقدمة إليها . وأغلقت دور المهاجرين بمكة . وتركت مهجورة موحشة خلاء .... بعد أن تم بناء بيت المصطفى في دار هجرته بدت الحاجة إلى زوج تملأ هذا البيت , وتهيئ للمصطفى سكنا وراحة , فيما يواجه من أعباء الرسالة في مرحلتها الحرجة الصعبة . وكانت " عائشة بنت أبي بكر " قد لحقت بأبيها في المدينة مهاجرة . وقبل الهجرة بثلاث سنين كان المصطفى صلى الله عليه وسلم قد عقد عليها بمكة ثم تمهل لم ينقلها إلى بيته هناك إذ كانت ظروفهما كليهما لا تعين على التعجيل بإتمام الزواج . وقد سبقتها إلى بيت المصطفى في المدينة أم المؤمنين " سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس " التي مات عنها زوجها " السكران بن عمرو " إثر عودتها من هجرة الحبشة فأشفق عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم , وتزوجها ليحمل عبئها الذي لقيت من غربة وترمل ...(1) ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تراجم أمهات المؤمنين رضى الله عنهن مفصلة في " طبقات الصحابة " ومعها كتابي " نساء النبي صلى الله عليه وسلم " " طبعات دار المعارف " . ص 154 وقنعت " سودة " بحظها من زوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم من بر ورحمة ورعاية وسكن . وأرضاها كل الرضى أن يشرفها النبي عليه الصلاة والسلام فيدخلها بيته أما للمؤمنين وبقيت حياة محمد صلى الله عليه وسلم في بيته تقتات من ذكريات الزوج الحبيبة الراحلة " خديجة بنت خويلد " التي أوحشت دنياه منذ رحيلها في عام الحزن بعد أنس عشرة هنيئة امتدت خمسا وعشرين سنة لم تشاركها فيها زوج أخرى في بيت زوجها أو في قلبه ودنياه ... وتهيأ مجتمع المدينة ليزف إلى محمد صلى الله عليه وسلم عروسه الصبية المليحة الذكية " عائشة بنت أبي بكر " وتعلق بها الأمل أن تملأ في بيته وقلبه ذلك الفراغ الموحش الذي تركته أم المؤمنين الأولى . وتم حفل العرس متواضعا غاية التواضع . مضى محمد صلى الله عليه وسلم إلى منزل صهره الصديق فجاءت " أم رومان : زوج أبو بكر " بابنتها العروس بعد أن سوت شعرها وغسلت وجهها وطيبتها وقدمتها إلى زوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي تدعو الله أن يبارك له فيها ويبارك لها فيه . ولم تنحر جزور ولا ذبحت شاة بل كان طعام العرس جفنة من طعام هدية من " سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري " وقدحا من لبن شرب المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم قدمه إلى عروسه فشربت منه . ونقلها إلى بيتها الجديد وما كان هذا البيت سوى حجرة من الحجرات المتواضعة التي شيدت حول المسجد النبوي من اللبن والجريد وأثاثه فراش من أدم حشوه ليف , ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير وفي مدخل الحجرة أسدل على فتحة الباب ستار من وبر وشعر .. وفي هذا البيت المتواضع بدأت " عائشة " حياتها الزوجية الحافلة وشغلت مكانها المرموق في حياة الرسول والإسلام . ولم يكن وجود " سودة " على مقربة منها في بيت الزوج الذي أحبته عائشة بقلبها البكر ووجدانها المرهف وعاطفتها المتوهجة يشغل بالها في كثير أوقليل فما غاب عنها أن ليس لسودة في قلب زوجها مكان . وإنما الذي كان يشغل عائشة هو ذلك الحب العميق الذي حظيت به " خديجة " قبلها من الزوج المصطفى صلى الله عليه وسلم . وتلك الذكرى الحية لمن استأثرت بكل عواطفه ربع قرن من الزمان . والزوج الحبيب يروض عائشة على أن ترضى منه بحظوتها لديه ومنزلتها في قلبه وفي حياته . ص 155 هل كانت " عائشة " طفلة كما يحلو لبعض المستشرقين أن ينعتوها وهم يقيسون نضج المرأة في المجتمع العربي منذ خمسة عشر قرنا . بمقاييس المجتمع الغربي في عصرنا . ؟ الذي يعرفه تاريخنا هو أن عائشة في صباخا الغض وأنوثتها الذكية بدأت من اليوم الأول لحياتها الزوجية تحقق وجودها في بيتها الجديد وتعي دورها الفذ في حياة زوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وتفرض شخصيتها على المجتمع المدني ثم على التاريخ الإسلامي الذي عرف لها أعمق الأثر في الحياة الفقهية والسياسية والاجتماعية للأمة الإسلامية . ص 156 هل نسى المهاجرون وطنهم الأول في البلد العتيق مهد مولدهم ومغنى صباهم ومثوى آبائهم من قديم الزمان ؟ . هل انقطع ما بينهم وبين أم القرى وطووا ما كان لهم فيها من ذكريات . ؟ كلا . بل بقيت مكة مهوى أفئدتهم مثلما هي مهوى أفئدة الأنصار وسائر العرب . وما كان الفراق سهلا . ولا كان في المهاجرين من ودعها إلا وقلبه مثقل بالشجن وكأنما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يعبر عما يجدون حين وقف ساعة خروجه للهجرة يستوعب مكة بنظرة حزينة ويقول مودعا . " والله إنك لأحب أرض الله إلى الله وإنك لأحب أرض الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتا " ورغم ما حفلت به الأيام الأولى في دار الهجرة . من مراسم الترحيب والإخاء وشواغل التنظيم للمجتمع الإسلامي الجديد كانت وطأة الحنين ترهق أكثرهم فترهف حساسيتهم لتغير المناخ . وألم بكثير منهم سقم وأجهدتهم الحمى وفي هذيان الحمى كان المطوي من أشواقهم ومكبوت حنينهم يتنفس مفلتا من أعماق أفئدتهم إلى ألسنتهم . تتحدث أم المؤمنين السيدة " عائشة بنت أبي بكر " رضى الله عنهما عن أول عهدهم بالمدينة فتقول : " كان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد . فأصابتهم الحمى فدخلت عليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك . فدنوت من أبي فقلت له : - كيف تجدك يا أبت ؟ فرد مرتجزا كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله ص 157 فقلت : والله ما يدري أبي ما يقول . ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت له : - كيف تجدك يا عامر ؟ فرد منشدا : لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه قلت : والله ما يدري عامر ما يقول .... وكان بلال إذا تركته الحمى . اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته يذكر مكة وربوعها : ألا ليــــــت شعري هل أبيتن ليلـــــــة بفـــــخ وحـــــــولي إذخــــــر وجليــــــــــل وهل أردن يـــــــــوما ميــــاه مجنــــة وهـــــل تبـــــدون لي شــــــــامة وطفيــــل فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم فقلت : - إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى . فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد " (1) . ويح المشركين من أهل مكة ضلوا وظلموا واشتطوا في عتوهم وعنادهم وبغيهم . وأسرفوا على من أسلموا منهم . وبقيت مكة مهوى الأفئدة : لم يسل عنها من هاجروا منها بدينهم ولم يغض من شأنها عتو الوثنية الطاغية . وإن مكة لمهد النبوة ودار المبعث ومثابة حج العرب من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام . .................. (1) بنصه عن ابن اسحاق . من السيرة النبوية رواية ابن هشام : 2 / 233 ط الحلبي . ص 158 مأخوذ من كتاب مَعَ المُصْطفى صَلى اللهُ عَليْه وَسَلم دكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ أستاذ التفسير والدراسات العليا كلية الشريعة بجامعة القرويين |
أدوات الموضوع | |
|
|