#1
|
|||
|
|||
التطهير
بعد حمد الله تعالي، والثناء عليه والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله وصحبه الكرام ، وبعد :
فإن مشاكل الحياة تصبغ قلب الإنسان بالهم والحزن، وأحيانا بالعجز والكسل، وأحيانا بغلبة الدين وقهر الرجال، وقد يتحمل الإنسان فوق طاقته من الأعباء والمهام والمسؤليات مما لوتحمله جبل ما استطاع إلي ذلك سبيلًا . هذه الهموم والأثقال تصبغ قلب الإنسان بالانشغال بها، وتجعله قليل التركيز، كثير الشرود، مشتت البال، ولن يعود إلي فطرته وحالته النقية إلا بالتخفف منها، وتحديد وجهة قلبه، فانظر إلي إبراهيم - عليه السلام - يسكن مع ذريته بواد غير ذي زرع، وقد انقطعت به الأسباب، كما يبدو لنا، لكن أسباب اتصاله بالله جعلت قلبه راضيًا طاهرًا مطهرًا ، وهذا ما تلمحه في قوله تعالي: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [إبراهيم : 37]. ونحن في حاجة إلي معالجة أدواء قلوبنا ونفوسنا بقلب سليم تتحق به النجاة، وتدوم به السلامة [إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] [الشعراء: 89 ] أي: سليم من الصفات الذميمة القبيحة التي تجعل الران يصبغ قلبه، بحيث لا يكاد يميز بين الحق والباطل، هذا القلب السليم هو الذي يجتنب التفكير في مقدمات المعاصي، ويحذر عواقبها ما بين خوف إلي رجاء [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ] [ الزمر : 17] إني أبحث معك عن هذا القلب الذي تطهر من الأدناس والعيوب والأرجاس [أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ ق : 37] فإذا ارتقي إلي هذه الحالة ابتعدت عنه الأمراض، فإذا اعتل القلب اعتلال وهنٍ وضعفٍ، وزاد مرضه كما قال تعالي : [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا] [البقرة : 10] لأجل هذا فنحن في حاجة إلي هذا القلب المميز المدرك الذي هو ميزان حركة البدن، كما قال - صلي الله عليه وسلم - : (( ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهي القلب )) [أخرجه البخاري رقم : 50 ]. والمفهوم العام الذي نريد أن نقوله : أن كثيرًا من الناس ينشغلون بطهارة أبدانهم وظاهرهم في منازلهم وفي طرقاتهم ، وهذاجيد وطيب ؛ لكن هذه الطهارة الظاهرة ليست هي المقصودة وحدها؛ لأن التطهر بمفهومه الإيماني الواسع أشبه بالبنيان الذي ينسجم داخله مع خارجه، ويؤسس علي الطهارة والتقوي ، ثم تنبعث إلي باقي البنيان كما قال تعالي : [أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] [ التوبة : 109] وقد وصف الله تعالي الرجال الذين أقاموا هذا البنيان بطهارة ظاهرهم وباطنهم، ونقاء سرائرهم وصحة قلوبهم واعتقادهم كما قال الله تعالي : [فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] [ التوبة : 108] ومع مداومة تطهير القلب وغسله من الأوزار والأدغال والأوجاع والشرور والإيذاء والكيد والتناجش والتفاحش والتباغض والتحاسد والتدابر والتلاعن مع طول تنقيح ومتابعة لهذا القلب، فإنه يكون قد استقر في مرتبة المحبة ، ودخل في طائفة المحبوبين من رب العالمين كما قال تعالي [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] [ البقرة : 222] فالتوبة تطهيرللنفس، وعلاج لأدوائها، وارتقاء بها إلي مرحلة النقاوة والطهارة، فهل نستطيع أن نتطهر من عيوبنا؟ وهل نستطيع أن نتصافي مع أنفسنا؟ هل نستطيع أن نطهر غيرنا؟ هل نستطيع أن نجمع بين نقاء السريرة وصلاح الحال والبال؟ هذه حالة طيبة إذا وصلنا إليها؛ فإننا نكون قد تغلبنا علي نقاط الضعف، واستمددنا العزيمة بقلب نقي تقي كما قال تعالي : [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] [الحشر : 10] . اللَّهُمَّ اجْعَلْ يَوْمَنَا خيرًا مِنْ أَمْسِنَا، وَغَدنَا خَيْرًا مِنْ يَوْمِنَا، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لَا يَخَافُكَ فِينَا وَلَا يَرْحَمُنَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ، وَأَحْسِنْ خِتَامَنَا، وَاجْعَلْ خَيْرَ يَوْمٍ يَوْمَ نَلْقَاكَ فِيهِ، يَا رَبَّ العَالَمِينَ. |
أدوات الموضوع | |
|
|