#1
|
||||
|
||||
سورة ص.
" ص والقرآن ذي الذكر " ذى المكانة والشرف، يهبهما لمن تبعه كما قال فى آية أخرى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " . وقد يكون الذكر ما يذهب النسيان والغفلة، ويورث الانتباه واليقظة " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " . لكن هناك متكبرين على الحق، إذا عرض عليهم أخذتهم العزة بالإثم، وهؤلاء عقباهم الهلاك، مهما طال المدى! " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب " . وقد قيل للرسول تصبيرا وتسلية " اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب " . وهذا أمر جدير بالتآمل. هل عانى داود وسليمان فى شأن الدعوة ما يتدبره الرسول صلى الله عليه وسلم ويأخذ منه الأسوة؟ والجواب أن هناك أنبياء ملوكا وأنبياء من سواد الناس، وربما توهم أن المرسلين الملوك مراحون من الأعباء، وأن الرسل الضعاف الفقراء هم المتعرضون للبلايا..! فشرح الله لنبيه أن الكل سواء فى المحنة. وأن أشد الناس بلاء الأنبياء على اختلاف حظوظهم من الدنيا، وذكر نبتين ملكين هما داود وسليمان وبين ما أصابهما فى أثناء الدعوة من متاعب. وبدأت قصة داود من قوله تعالى " وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق.. " . وشرح المظلوم قصته " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب... ". وسكت الظالم سكوت إقرار وهزيمة. وتكلم داود قائلا " قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض.. " . وشعر داود أنه ص _352 المعنى بهذه القضية، فقد كانت له زوجات كثيرات، ومع ذلك خطب فتاة يبدو أن آخر كان يريدها لنفسه، فلما ظهر هو طاشت كفة الآخر، وكيف يبقى وقد نافسه ملك نبى؟ لقد ضمها إلى زوجاته وعاد الآخر محروما. ولم يرض رب العالمين بما حدث، فأشعر داود بخطئه، وأثرته " وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب". إن داود ـ فى رأينا ـ كان من الأغنياء الشاكرين. ونحسب أنه توسع فيما أباح الله له توسعا امتدت فيه نفسه ورغباته، وما كان له أن يمضى فى خطبة امرأة تقدم لها آخر!! حتى لو كان هو السابق، فالأفضل أن ينزل عن حقه. وأيا ما كان الأمر فقد أشعره الله بذنبه، وعفا عنه. ثم تتابعت النصائح الإلهية ترفعه إلى المكانة التى تليق به " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ". إن هذا النبى الملك أخطأ وغسل خطأه بدموعه. وقد عثر فى طريق الدعوة عثرة كادت تودى به، لكن الآلام ردته إلى الله تائبا مقبولا. هل حصنه الملك والجاه عن خوض هذه التجارب؟ إن التكذيب والإنكار اللذين عاناهما محمد أسهل من هذا البلاء.. وقد رفع الله شأن محمد بكتاب تضمن صحائف الوحى الأول والأخير، واستودعه حكما تعصم من الزلل، وتقود إلى الله، وتعانق الحق " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار * كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ". وقد اتهم اليهود نبيهم بالزنا والقتل. زعموا أنه زنى بامرأة " أوريا "، وتآمر على قتله حتى يملك المرأة بعد اغتيال رجلها.. ولكن قرآن محمد هو الذى أنصف الرجل الشريف، ونفى عنه هذه الموبقات! إن الأنبياء الملوك ليسوا نفرا من الناس أذهب طيباته فى الحياة الدنيا. بل إنهم بذلوا ما يملكون فى سبيل مرضاة الله. وقد رأينا سليمان يعد جيشه لمحاربة اليمن وملكتها بلقيس حتى تدع عبادة الشمس وتدخل فى عبادة الله الواحد وتعلن إسلامها له " ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين " . وفى هذه السورة يقول الله سبحانه " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب". وقد ص _353 أعد سليمان جيشا من الفرسان للقتال فى سبيل الله، وكان يستعرض الخيل ليطمئن إلى أهبتها، وربما استغرق هذا وقتا منه، ولكنه يعلم أن تربية الخيل للجهاد قربى تستحق العناية والإقبال " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق". إنه مسح عطف وإعزاز، وليس قطع دابرها بالسيف كما ذكر بعض الجاهلين.. وليت قومى يحبون أدوات الحرب على هذا النحو! إذن لنجوا من الخزى العظيم الذى حل بهم مع فراغ اليد من السلاح! وحكوا أن سليمان عزم على الطواف بمائة من نسائه ـ وكن ألفا كما تحكى التوراة ـ قال: ينجبن مائة فارس يجاهدون فى سبيل الله!! وطاف بالمائة فكانت الحصيلة سقط جنين رمى به على كرسيه! قالوا وذاك معنى الآية " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" وفى نفسى شىء من هذه الرواية؟ فلا الطاقة تسع، ولا الوقت يكفى! ولا كل نكاح يثمر، ولا كل ثمرة تكون فارسا مجاهدا!! إن شيئا ما حدث لا أستطيع تحديده جعل سليمان يرجع إلى ربه تائبا مستغفرا. كان سليمان ملكا كبيرا، والذى نلفت النظر إليه أنه نال هذا الملك من الخدمة الصالحة والعبودية الخاشعة والتوبة السريعة والفقه العميق. ولقد وصفه ربه بذلك كله، عندما قال فيه "نعم العبد". ومن منطلق هذه العبودية، ومن إحساسه بمدى عطاء الله، طلب المزيد! إن بصيرته انفتحت على اسم الوهاب، فرأت البشر وغيرهم يمرحون فى فضول الهبات العليا، ورأت البر والفاجر يستمدان من عطاء الله، فطمحت نفسه إلى قطرة من هذا البحر الدافق، فدعا: " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب " . والحق أنه مع النظر إلى سيب الله لا يقف الطماح عند حد، فبحر العطاء يفيض ولا يغيض. ومعنى لا ينبغى لأحد من بعدى ـ فيما أرجح ـ لا يبلغه أحد من المنافسين لى! وكان لسليمان خصوم يطمعون فى ملكه. والرأى الآخر: ملك لا يحصل بشر على مثله..! فى حاضر أو مستقبل. " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص" . ص _354 وقد بقى لسليمان هذا الملك يديره ويتسلط عليه حتى جاءه الموت فوقع من على كرسيه، وهو يسخر الجن والإنس لأمره! وقد وعده الله بمستقبل فى الآخرة خير مما لقى فى الدنيا " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " . وتضمنت " ص " نبأ أمير آخر من رجال المال والأعمال أصابته نكبة جائحة ذهبت بصحته وماله، هو أيوب عليه السلام. " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب" . يعنى أن الشيطان يريد أن يلقى فى نفسه سوء الظن بالله والسخط على ما أصابه، فإن الشيطان لا يصيب الناس بالأمراض الحسية. وفى سورة الأنبياء " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين" . فهو يطلب رفع الضر حتى يسد أبواب هذه الوساوس . " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " . وقد ساق الله لأيوب الشفاء مما ابتلاه به " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ". يعنى أصحاب العقول الذين يستفيدون من العبر ويتوثق رباطهم بالله.. ثم ذكرت السورة أسماء ستة من الأنبياء، منهم واحد من أولى العزم هو إبراهيم وابنه إسحاق وحفيده يعقوب، ووصفتهم بأنهم أولو الأيدى والأبصار. وهذا الوصف يعطى أن التدين قوة وبصيرة، وليس وهنا وغباء، إنه إنسانية رفيعة " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار " . والثلاثة الباقون هم إسماعيل واليسع وذو الكفل، وكلهم من الأخيار. والآيات من أول قوله تعالى "... واذكر عبدنا داود ذا الأيد" تفيد أن الذكر الحسن نعمة يفيئها الله على الصالحين من عباده، يرفع بها قدرهم ويستبقى أخرهم. وقد قيل: الذكر للإنسان عمر ثان. والمفروض أن المسلم يطلب بعمله وجه ربه لا وجه بشر، فإذا تقبله الله أحبه ووضع له الحب فى القلوب والثناء على الألسنة. وليس ذلك فقط! بل هناك الجزاء الهنيء " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب * جنات عدن مفتحة لهم الأبواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب". ص _355 أما أعداء الله وخصوم دعوته، فلهم جزاء آخر " هذا وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد " . وعلى عادة القرآن الكريم فى ذكر مشاهد القيامة، وما يدور من حوار بين الأتباع والرؤساء يقول الله لأهل جهنم " هذا فوج مقتحم معكم " - من أهل الكفر - "لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارَ" . وظاهر أن المقتحمين من الأتباع، وأن الذى رفض الترحيب بهم الرؤساء. ولم يرحبوا بهم وقد أيدوهم فى كفرهم؟ وطالما حفُّوا بهم وهتفوا لهم!! " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار" . وتشعر بالعجب عندما يقول الطغاة وقد تذكروا الدنيا، وتذكروا ما كانوا يفعلون بالمستضعفين من المؤمنين " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار" إن هؤلاء المستضعفين لهم شأن آخر " في جنات ونهر" . أما المتحاورون من أهل النار، ففى الدرك الأسفل " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ". ويرتبط آخر السورة بأولها فى قوله تعالى: " قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار" فهذا راجع إلى قول الكافرين عن رسول الله " هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب". إنه ليس للوجود إلا سيد واحد، وماعداه عبد له، وقد قرر محمد هذه الحقيقة بأجلى بيان ولكن الناس غافلون " قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ". يقول الرسول للناس من أين لى العلم بما يدور فى الملأ الأعلى من حوار؟ إننى أتلفى ما يجيئنى، كقول الله له " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين" . إن الله اختار محمدا ليلقى على قلبه هذا الكتاب، فيشرح حقيقة التوحيد، ويرفض كل أنواع التعدد، ويعلق الناس برب واحد تعنو له الوجوه وترجع إليه الأمور " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين" . ص _356 |
أدوات الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه للموضوع: سورة ص. | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | الأقسام الرئيسية | مشاركات | المشاركة الاخيرة |
إبدأ صفحة جديدة مع الله | معاوية فهمي | موضوعات عامة | 0 | 2019-12-31 11:27 AM |
هل سمعت بهذا من قبل | معاوية فهمي | موضوعات عامة | 0 | 2019-12-22 11:36 AM |
شرح سورة الجمعة | التوحيد | موضوعات عامة | 0 | 2019-11-23 11:06 PM |
الدروس المستفادة من سورة التوبة | معاوية فهمي | موضوعات عامة | 0 | 2019-11-03 12:16 PM |