جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار هذه الآية الكريمة جاءت في منتصف سورة آل عمران, وهي سورة مدنية, ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائتي آية بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي أسرة السيدة مريم ابنة عمران, أم نبي الله عيسي( علي نبينا وعليه من الله السلام) وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي): إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين* ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم* (آل عمران:33 و34) وتروي السورة الكريمة قصة امرأة عمران, وابنتهما مريم أم عيسي( عليهما السلام), كما تروي معجزة ميلاده من أم بغير أب, والمعجزات التي أجراها الله تعالي علي يديه. كذلك جاءت الإشارة في هذه السورة الكريمة إلي كل من نبي الله زكريا وولده يحيي الذي وهبه الله له علي الكبر, كما جاء بالسورة وصف تفصيلي لما حدث في معركة أحد. ويدور المحور الرئيسي لسورة آل عمران حول حوار أهل الكتاب, ويتحدد من خلال هذا الحوار عدد من ركائز العقيدة الإسلامية وتشريعاتها. وتستفتح السورة بالحروف المقطعة الثلاثة ألم التي تكررت في مطلع ست من سور القرآن الكريم, وينقسم المفسرون حيال هذه الفواتح الهجائية إلي مجموعتين, تري الأولي منهما ضرورة التوقف عن الخوض فيها وتفويض أمرها إلي الله, وتري المجموعة الثانية عدم التحرج من النظر فيها, والاجتهاد في فهم دلالاتها. ويدور حوالي نصف عدد آيات السورة( من1 ـــ83) في الحوار مع أهل الكتاب, ممثلين في وفد نصاري نجران الذي قدم المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة. وتتضمن هذه الآيات الكريمة إشارات إلي اليهود, وحقيقة نواياهم, وما انطوت عليه نفوسهم المريضة من خبث, ومكر, ودهاء, وكراهية للحق, كما تتضمن تحذيرات للمسلمين من دسائسهم ودسائس غيرهم من المشركين والكفار والمنافقين. وقد جاء الخطاب إلي أهل الكتاب في اثنتي عشرة آية نختار منها قوله تعالي: إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون*( آل عمران:59) وقوله( عز من قائل):قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون*( آل عمران:64) ثم تنتقل السورة الكريمة إلي تأكيد إيمان المسلم بجميع الرسالات السماوية, وبجميع أنبياء الله ورسله دون أدني تفريق, مؤكدة أن رسالتهم جميعا واحدة ألا وهي الإسلام العظيم الذي بعث به كل نبي وكل رسول, وتتبع تلك الحقيقة بالقرار الإلهي الحاسم الجازم الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي): ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين* (آل عمران:85) وذلك بعد أن قرر في أوائل السورة الكريمة قرارا آخر يقول فيه ربنا( جلت قدرته): إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب*.( آل عمران:19) وبعد ذلك تحدثت الآيات عن عقاب المرتدين, وعن حكم الله فيهم, ودعت إلي الانفاق في سبيل الله, وحذرت من تحريف اليهود للتوراة, وأمرت باتباع ملة إبراهيم.. حنيفا وما كان من المشركين.. وأشارت سورة آل عمران إلي الكعبة المشرفة بصفتها.. أول بيت وضع للناس.., وأكدت فريضة الحج علي المستطيع من المسلمين, وعاتبت أهل الكتاب في أكثر من مقام, كما عاتبت أهل الكفر والضلال من العرب علي كفرهم, وآيات الله تتلي عليهم, وفيهم رسوله, وأوصت بتقوي الله, وأكدت ضرورة الاعتصام بحبله جميعا دون فرقة, وذكرت بنعم الله علي العباد, ودعت إلي نفرة أمة من المسلمين للدعوة إلي الخير, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, ووصفتهم بأنهم هم المفلحون. ونهت السورة الكريمة عن فرقة الكلمة, وتحدثت عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين في يوم الدين, وعن جزاء كل منهم, وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, أنزله بالحق علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وأنه هدي وموعظة للمتقين.. وخاطبت السورة الكريمة أمة الإسلام بقول الحق( تبارك وتعالي): كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله....*( آل عمران:110) وعرجت الآيات مرة أخري إلي الحديث عن أهل الكتاب, وأكدت أن منهم المؤمنين, وأكثرهم الفاسقون, وأثنت علي الذين يؤمنون منهم وذلك بقول الحق تبارك وتعالي: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين*( آل عمران:115) ثم انتقلت( سورة آل عمران) إلي الحديث عن غزوة أحد, وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم لأوامر رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في ساحة المعركة, وذكرت بانتصارات بدر, وبمبررات ذلك الانتصار, وصاغت الأحداث صياغة ربانية معجزة لا تتوقف عند حدود وصف المعركتين وصفا مجردا, ولكن تتجاوز ذلك لتصبح توجيهات ربانية دائمة في بناء الجماعة المسلمة, وتوضيح سنن الله في النصر والهزيمة إلي يوم الدين. وتؤكد السورة الكريمة ـ في أكثر من آية ـ أن لله ما في السماوات وما في الأرض, وأن الله( تعالي) يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء, وأن الله غفور رحيم. وتنهي هذه السورة عن أكل الربا, وتحذر من عذاب النار, وتأمر بطاعة الله ورسوله, كما تنصح بالمسارعة إلي طلب المغفرة من الله, وسؤاله الجنة التي أعدت للمتقين الذين أوردت شيئا من صفاتهم, وتوصي بالسير في الأرض من أجل الاعتبار بعواقب المكذبين. ثم عاودت سورة آل عمران إلي التذكير بغزوة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين, مؤكدة لهم أنهم هم دائما الأعلون ما داموا علي إيمانهم بالله, علي الرغم من تعرضهم لبعض النكسات والهزائم أحيانا, وأن النصر والهزيمة من سنن الله في الحياة, لكل منها قوانينه, وأن الأيام دول يداولها الله( سبحانه وتعالي) بين الناس لحكمة يعلمها, لعل منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء, وأن يميز المؤمنين من المنافقين, وأن يطهر المؤمنين بهذا التمحيص من الذنوب, ويهلك الكافرين والمشركين والمنافقين بذنوبهم, والله تعالي لا يحب الظالمين من المعتدين ولا من المتخاذلين عن الدفاع عن دمائهم وأعراضهم ومقدساتهم وممتلكاتهم, وعن الحق وأهله, وهذا الخطاب كما كان لأصحاب رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ولأهل زمانه هو خطاب لنا اليوم في تقاعسنا عن الدفاع عن الحق وأهله!!. وأكدت سورة آل عمران أن سيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) هو.. رسول قد خلت من قبله الرسل, لا يجوز لأي ممن آمن به واتبعه أن يرتد عن ذلك إن مات أو قتل( صلي الله عليه وسلم), وفي ذلك إشارة إلي ما أشاعه الكافرون أثناء معركة أحد بأن رسول الله قد قتل, فتصور المنافقون المندسون في وسط المسلمين أن رسالته قد انتهت, وأن بإمكانهم الارتداد عن دينه, وتؤكد الآيات أن من يرتد عن الإسلام فلن يضر الله شيئا, ولكنه يهلك نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه. وتنتقل الآيات إلي قضية الأجل مؤكدة أن الله( تعالي) قد جعل لكل نفس أجلا محددا لا تموت إلا عنده, وقد جعله الله سبحانه وتعالي غيبا حتي لا تتوقف عجلة الحياة, وأخبر بتلك الحقيقة تشجيعا للمؤمنين علي تجاوز حاجز الخوف من الموت, وتأييدا للانخراط في مواكب المجاهدين في سبيل الله دون مهابة. وتؤكد الآيات في سورة آل عمران أن من قصد بعمله أجر الدنيا, أعطاه الله إياه, وليس له في الآخرة من نصيب, وأن من قصد بعمله أجر الآخرة أعطاه الله( تعالي) أجري الدنيا والآخرة, وأن الله( سبحانه وتعالي) يجزي عباده بحسب شكرهم له, واعترافهم بعظيم نعمه عليهم, وإن كانت هذه أحكاما عامة إلا أن فيها تعريضا واضحا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناء غزوة أحد فتسببوا في هزيمة جيش المسلمين. ثم تنتقل الآيات في سورة آل عمران إلي الحديث عن أعداد كبيرة من العلماء الربانيين, والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله, في سبيل الله, ومن أجل اعلاء دينه, فقتل منهم من قتل, وأصيب من اصيب ولكنهم لم يذلوا لعدوهم ولم يخضعوا له, واحتسبوا وصبروا في الشدائد والمحن وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي) ممتدحا إياهم: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين*( آل عمران:147,146) ثم يأتي قرار الله( تعالي) بأجرهم الذي يقول فيه( عز من قائل): فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين*. (آل عمران:148) وتعاود السورة المباركة إلي تحذير المؤمنين من موالاة كل من المشركين والكافرين, وتؤكد للمؤمنين أن الله( تعالي) هو مولاهم وهو خير الناصرين, وأنه( تعالي) يعدهم النصر بقوله الحق: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوي الظالمين* ( آل عمران:151) ومرة أخري تستعرض الآيات(152 ـ175) أحداث معركة أحد بهدف تربية المسلمين, وتصحيح مفاهيمهم وتصوراتهم, وتحذيرهم من مزالق الطريق, وتنبيههم إلي ما أحاط بهم من كيد قديم, وما يمكن أن يحيط بهم من كيد يتجدد إلي يوم الدين,( كالذي نحن فيه اليوم واقعون من مؤامرات, ومكائد, وفتن يخطط لها أعداء الإسلام المتربصون بنا الدوائر), ويحاول الشيطان أن يعينهم علي ذلك لكي يجعل من أوليائه مصدر إرهاب وتخويف للمؤمنين, والآيات في سورة آل عمران تؤكد أن الخوف لا يكون إلا من الله( تعالي). وتطلب الآيات من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ألا يحزن علي الذين يسارعون في الكفر لأنهم لن يضروا الله( سبحانه وتعالي) شيئا, ولكن يضروا أنفسهم, ويريد الله( تعالي) ألا يجعل لهم حظا في الآخرة, ولهم عذاب عظيم, وإمهالهم في الدنيا بتمديد آجالهم والتمكين لهم ليس في صالحهم, لأنهم يزدادون بذلك معاصي وآثاما فيتضاعف عذابهم في الآخرة, وفي المقابل فإن ابتلاء الله للمؤمنين هو ليميز الخبيث من الطيب( وهو أعلم بهم), ويظهر ذلك لمن يشاء من عباده كما فعل في معركة أحد وقال( عز من قائل): ما كان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم*.( آل عمران:179) وتنصح الآيات في سورة آل عمران بالإيمان بالله وتقواه, وببذل المال في سبيل الله, وتتوعد الذين يبخلون بذلك لأنهم: .. سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير*.( آل عمران:180) ثم عاودت السورة الكريمة الإشارة إلي شيء من جرائم اليهود المروعة, ودسائسهم الخبيثة, وأساليبهم الملتوية في التطاول علي الله( تعالي) وعلي خلقه, وفي محاربة دينه, وأنبيائه ورسله, وفي نقض العهود والمواثيق, ونشر المعلومات الكاذبة, والإشاعات المختلقة, والادعاءات الباطلة. كما عاودت إلي تأييد رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في وجه المكذبين لبعثته الشريفة فتخاطبه بقول الحق( تبارك وتعالي): فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير*. (آل عمران:184) وتؤكد الآيات أن الفناء هو مصير الخلائق كلها, وأن كل نفس ميتة لا محالة.. وأن الخلائق سوف تلقي جزاء أعمالها وافيا يوم القيامة, وأن الابتلاء من سنن الحياة, وتوصي في مواجهته بالصبر والاحتساب, وبتقوي الله, وتعتبر ذلك من عزم الأمور. وتعاود السورة إلي استعراض بعض المواقف المخزية لبني إسرائيل, ومنها أن الله تعالي كان قد أخذ عليهم كل العهود والمواثيق اللازمة كي يظهروا للناس حقيقة ما أنزل علي أنبيائهم ورسلهم من أحكام فكتموها, ونبذوها وراء ظهورهم, واشتروا بها أشياء حقيرة من حطام الدنيا الفانية. وتعليقا علي ذلك يقول ربنا سبحانه وتعالي لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم*( آل عمران:188) وتختتم هذه السورة الكريمة بتوجيه الناس كافة إلي التأمل في خلق السماوات والأرض, واستخلاص شيء من صفات الخلاق العليم بالتعرف علي بديع صنعه في خلقه, وبتوجيههم كذلك إلي تكثيف الرجاء والدعاء إلي الله تعالي بالنجاة من النار, ومن خزي يوم القيامة, وبطلب المغفرة للذنوب, وتكفير السيئات, ورفع الدرجات. ويستجيب لهم الله( سبحانه وتعالي) من فيض كرمه فيقول فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب*.( آل عمران:195) ثم يأتي الخطاب إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وإلي جميع المسلمين ألا يغتروا بتقلب الذين كفروا في البلاد في شيء من النعمة, والجاه, والسلطان, فمتاع الدنيا قليل, ومن ثم ينتهي بهم إلي جهنم وبئس المصير, وفي المقابل فإن الصالحين المتقين قد يعيشون في الدنيا في شيء من الحرمان وشظف العيش, ولكن الله( تعالي) قد أعد لهم في الآخرة خيرا كثيرا. وتعاود السورة في خواتيمها إلي ذكر أهل الكتاب, وتقرر أن منهم من سلك طريق الهداية فانتهي إلي نفس النهاية: آمن بالله, وبملائكته, وكتبه, ورسله بغير تفريق ولا تمييز, بما في ذلك إيمانهم بخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وبالقرآن الكريم الذي أنزل إليه, فمن الله( تعالي) عليهم بالخشوع لله, والخضوع لكلامه, والاعتزاز به, وتعظيمه, وأكرمهم, بأن لهم أجرهم عند ربهم. وتختتم سورة آل عمران بوصية من الله( تعالي) للمؤمنين من خلقه يقول لهم فيها: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون* وهي عدة المؤمن في مواجهة أهل الباطل في هذه الحياة. من ركائز العقيدة في سورة آل عمران تتلخص ركائز العقيدة التي جاءت بها سورة آل عمران في النقاط التالية: * أولا: الإيمان بالله تعالي ربا, وتوحيده توحيدا مطلقا بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, وتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لا يليق بجلاله( من مثل نسبة الزوجة أو الولد له وهما من صفات المخلوقين ولا تليق بجلال الله). والإيمان بأن الله( تعالي) هو الحي القيوم, الذي لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء, وأنه( سبحانه وتعالي) هو الذي يصور الخلق في أرحام أمهاتهم كيف يشاء, وأنه هو العزيز الحكيم, وبأنه هو البصير بالعباد, مالك الملك, يؤتي الملك من يشاء, وينزعه ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء, بيده الخير, وهو علي كل شيء قدير, يعلم ما في السماوات وما في الأرض, وأن النصر منه وحده يؤيد بنصره من يشاء, وأن الهدي هدي الله, وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء, والله واسع عليم, يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم, وهو رءوف بالعباد, وفي الوقت نفسه هو عزيز ذو انتقام, يعلم ما في السماوات وما في الأرض, وأنه لا يخلف الميعاد. * ثانيا: الإيمان بالوحي الذي أنزله ربنا( تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل, هداية للناس, وأتمه, وأكمله, وحفظه في رسالته الخاتمة( القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة), وأن هذه الرسالة الخاتمة مصدقة لما سبقها من صور الوحي, ومهيمنة عليها, وعلي ذلك فإن الإيمان برسل الله مكمل للإيمان بوحي السماء. * ثالثا: الإيمان بأن القرآن الكريم يضم آيات محكمات( هن أم الكتاب), وأخر متشابهات( لا يعلم تأويلهن إلا الله). * رابعا: الإيمان بأن كل نفس ذائقة الموت, وأن الله( تعالي) جامع الناس ليوم لاريب فيه, أي: الإيمان بحقيقة الآخرة وحتميتها, وبحقيقة ما فيها من أحداث كبري من مثل البعث والحساب, والجنة والنار, وبأن الجنة مثوي المتقين, وبأن النار مثوي الكافرين, وبأن المؤمنين تبيض وجوههم في يوم القيامة بينما تسود وجوه الذين يكفرون بعد إيمانهم. * خامسا: الإيمان بأن الدين عند الله الإسلام, وأن أهل الكتاب لم يختلفوا في أمر الدين إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم, وبأن من يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب. * سادسا: الإيمان بضرورة طاعة الله, وطاعة الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) واتباع سنته, والاعتصام بحبل الله, ومحاربة فرقة الكلمة بين المسلمين. * سابعا: الإيمان بأن أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس, لأنها تأمر بالمعروف, وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله, فإذا لم تقم بذلك فقدت هذه الخيرية. * ثامنا: الإيمان بقضاء الله وقدره, وبأن البلاء من سنن الحياة, ولابد من مقابلته بالتسليم والصبر والرضاء بقضاء الله. من ركائز التشريع في سورة آل عمران 1ـ تحريم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين. 2ـ تحريم افتراء الكذب علي الله, أو أن يشتري المرء بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا. 3ـ تحريم الردة في الإسلام, وعلي المرتد أن يستتاب, فإن تاب بصدق قبلت توبته إن شاء الله, وإن لم يتب ومات فإنه يموت علي الكفر, ويخلد في النار أبدا في عذاب أليم, وما له من ناصرين. 4ـ وجوب الإنفاق في سبيل الله. 5ـ أن لله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. 6ـ تحريم أكل الربا تحريما قاطعا. 7ـ تحريم التولي يوم الزحف. 8ـ تحريم الغلول, وهو الأخذ من الغنيمة خفية. 9ـ تحريم النفاق. 10ـ الحث علي الاستشهاد في سبيل الله 11 ـ فرض الشوري كقاعدة إسلامية في الحكم. من الآيات الكونية في سورة آل عمران (1) أن الله( تعالي) هو الذي يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء. (2) الإشارة إلي دوران الأرض حول محورها امام الشمس بذكر ولوج الليل في النهار, وولوج النهار في الليل بأمر من الله تعالي. (3) الإشارة إلي دورة الحياة والممات والبعث بإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي. (4) الإشارة إلي خلق آدم من تراب. (5) التأكيد علي حقيقة أن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا. (6) التأكيد علي أن الله( تعالي) له ما في السماوات وما في الأرض, وأن إليه ترجع الأمور. (7) التأكيد علي أن كل نفس ذائقة الموت, وأنه ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا. (8) الإشارة إلي معالجة الغم بغم جديد وهي قضية نفسية عرفها الإنسان مؤخرا. (9) الإشارة إلي حقيقة أن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار فيهما آيات لأولي الألباب, وأن تدبرهما والتفكر فيهما من وسائل التعرف علي الخالق( سبحانه وتعالي) وعلي شيء من صفاته العليا, وقدراته التي لا تحدها حدود في إبداعه لخلقه. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة, وسوف أقوم بذلك إن شاء الله( تعالي) تباعا في مقالات قادمة, ولكني أقصر حديثي هنا علي النقطة الخامسة المتعلقة بأول بيت وضع للناس, ولكن قبل الشروع في ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من كبار المفسرين ـ القدامي والمعاصرين ـ في شرح هذه الآية الكريمة. من أقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي): إن أول بيت وضع للناس للذي بكة مباركا وهدي للعالمين*.( آل عمران96) * ذكر ابن كثير رحمه الله ما نصه:يخبر تعالي أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس, لعبادتهم ونسكهم, يطوفون به, ويصلون إليه, ويعتكفون عنده( للذي ببكة) يعني الكعبة التي بناها( رفع قواعدها) إبراهيم الخليل عليه السلام( وولده إسماعيل عليه من الله السلام), ولهذا قال تعالي:(مباركا) أي وضع مباركا( وهدي للعالمين). عن أبي ذر رضي الله عنه قال:قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال:المسجد الحرام, قلت: ثم أي؟ قال:المسجد الأقصي, قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة, قلت: ثم أي؟ قال:ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد( رواه أحمد, وأخرجه الشيخان بنحوه). وعن علي رضي الله عنه...... قال: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وزعم السدي أنه أول بيت وضع علي وجه الأرض, مطلقا..( وهذا فهم رائع وسابق لزمانه بقرون طويلة علي الرغم من إضافة ابن كثير قوله:والصحيح قول علي رضي الله عنه). وقوله( تعالي):( للذي ببكة) فإن بكة من أسماء مكة علي المشهور, قيل سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة, بمعني أنهم يذلون بها ويخضعون عندها, وقيل لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون, قال قتادة:إن الله بك به الناس جميعا, فيصلي النساء أمام الرجال, ولا يفعل ذلك ببلد غيرها, وقال شعبة عن إبراهيم: بكة البيت و المسجد, وقال عكرمة: البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة وقال مقاتل بن حيان: بكة موضع البيت وما سوي ذلك مكة, وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة( مكة, وبكة, والبيت العتيق, والبيت الحرام, والبلد الأمين, وأم القري, والقادس لأنها تطهر من الذنوب, والمقدسة, والحاطمة, والرأس, والبلدة, والبنية, والكعبة). * وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه:(إن أول بيت وضع) متعبدا( للناس) في الأرض( للذي ببكة) بالباء لغة في( مكة) سميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة, أي: تدقها, بناه الملائكة قبل خلق آدم, ووضع بعده الأقصي, وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين, وفي حديث( أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر موقوفا عليه): أنه أول ما ظهر علي وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة( بفتح الزاي, أي: كتلة من الزبد) بيضاء فدحيت الأرض من تحته,( مباركا) حال من( الذي) أي: ذا بركة( وهدي للعالمين) لأنه قبلتهم. * وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:... ثم يقرر أن الاتجاه للكعبة هو الأصل, فهي أول بيت وضع في الأرض للعبادة وخصص لها... وجعله مباركا وجعله هدي للعالمين.. * وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) ما نصه: .... إن أول بيت وضعه الله متعبدا للناس وقبلة للصلاة وموضعا للحج والطواف, سواء العاكف فيه والباد, لهو الكعبة....!,( ببكة) لغة في مكة, والميم والباء يتعاقبان لغة, كما في لازم ولازب,( مباركا) كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره, أو اعتكف فيه أو طاف حوله, لمضاعفة ثواب العبادة فيه; من البركة, وهي النماء والزيادة. * وذكر كل من أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم وصاحب صفوة التفاسير( جزاهم الله خيرا) كلاما مشابها, لا أري حاجة إلي تكراره هنا. الدلالة العلمية للآية الكريمة بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلافا من العلماء, عبر عشرات من العقود ثبت لنا في منتصف الستينيات من القرن العشرين أن أرضنا في مرحلة من مراحل خلقها كانت مغمورة بالماء غمرا كاملا, لم يدع فيها شيئا مكشوفا من اليابسة, ثم شاءت إرادة الله( تعالي) أن يفجر قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية عنيفة ظلت تلقي بحممها التي تراكمت فوق بعضها البعض مكونة سلسلة جبلية في وسط هذا المحيط الغامر, وظلت هذه السلسلة في النمو والارتفاع حتي ظهرت قمتها فوق سطح الماء مكونة أول جزء من اليابسة علي هيئة جزيرة بركانية من مثل الجزر البركانية العديدة والمنتشرة في محيطات اليوم( جزر اليابان, الفلبين, اندونيسيا, هاواي, وغيرها), وباستمرار عمليات النشاط البركاني نمت هذه الجزيرة الأولية بالتدريج بواسطة الثورات البركانية المتلاحقة التي أضافت إليها مساحات جديدة من اليابسة محولة إياها إلي قارة كبيرة تعرف باسم القارة الأم أو بانجيا(Pangaea) وهذا النمو بالإضافة علي مراحل يعرف باسم الدحو الذي يعرف لغة: بالمد والبسط والإلقاء وهو تعريف دقيق لعمليات بناء الأرض بواسطة الثورات البركانية. وبعد اكتمال تكون القارة الأم شاءت إرادة الله( تعالي) أن يمزقها بواسطة شبكة هائلة من الصدوع العميقة التي شكلت خسوفا أرضية غائرة, فصلت تلك القارة الأم إلي القارات السبع المشاهدة حاليا علي سطح الأرض, والتي كانت في القديم أشد تقاربا إلي بعضها البعض ثم بدأت في الزحف والتباعد حتي وصلت إلي مواقعها الحالية علي سطح الأرض والتي لا تزال في حركة دائبة منها اليوم. هذه الظاهرة التي يتحول فيها جزء من المحيط إلي أرض يابسة, أو تنشق الأرض اليابسة لتحتوي محيطا فيما بينها تعرف باسم دورة المحيط واليابسة. ويتم تحول المحيط إلي أرض يابسة بواسطة الثورات البركانية المتكررة من تحت قاع المحيط والتي ترتفع بجزء من ذلك القاع إلي ما فوق سطح الماء علي هيئة جزر بركانية تظل تنمو بالتدريج متحولة إلي قارة, ثم بواسطة تصدع وخسف أجزاء من تلك القارة تنفصل إلي كتلتين متوازيتين يفصلهما بحر طولي شبيه بالبحر الأحمر, يظل يتسع باستمرار حتي يتحول إلي محيط. ومن قبل ألف وأربعمائة سنة روي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قوله:كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض والحديث ذكره الهروي في غريب الحديث(362/3), وذكره الزمخشري في الفائق في غريب الحديث(371/1) لأن دلالته العلمية سابقة لعصره بألف وأربعمائة من السنين. و(الخشعة) أكمة لاطئة بالأرض, والجمع( خشع). وهذا الحديث النبوي الشريف يدعمه حديث آخر أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر( رضي الله عنهما) موقوفا عليه: أنه( أي البيت الحرام) أول ما ظهر علي وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة( بفتح الزاي, أي كتلة من الزبد) بيضاء فدحيت الأرض من تحته. وهذان الحديثان الشريفان يعتبران سبقا علميا معجزا لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) يشهد له بالنبوة وبالرسالة, وبأنه كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, لأنه لم يكن لأحد من الخلق قبل منتصف الستينيات من القرن العشرين إدراك لشيء من هذه الحقيقة. ويؤكد ذلك ما أشرنا إليه في مقال سابق عن توسط مكة المكرمة لليابسة, كما يحمل معني أن اليابسة تحت الكعبة المشرفة تعتبر أقدم جزء من الغلاف الصخري للأرض علي الإطلاق, وهو ما لم يحاول أحد إثباته بعد, وعلي علماء المسلمين أن يتحققوا من ذلك بتحديد العمر المطلق للصخور القائمة حول الكعبة المشرفة بواسطة العناصر المشعة الموجودة فيها حتي يمكن تقديم هذا الدليل إلي الناس جميعا ـ مسلمين وغير مسلمين ـ مما يعتبر وثيقة مادية ملموسة, وحجة منطقية دامغة علي الناس كافة بنبوة هذا النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم). ولعل في هذين الحديثين الشريفين ما يدعم قول السدي( رحمه الله) في تفسير قوله( تعالي):(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين):أنه أول بيت وضع علي وجه الأرض مطلقا.... فسبحان الذي أنزل القرآن بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وحفظه لنا بلغة وحيه, كلمة كلمة, وحرفا حرفا ليكون للعالمين نذيرا وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم الذي تلقاه, وعلي آله وصحبه, ومن تبع هداه, ودعا بدعوته إلي يوم الدين, والحمد لله ربه العالمين.
__________________
[gdwl][/gdwl]
|
أدوات الموضوع | |
|
|