جديد المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا...(النحل:69)
ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا...(النحل:69)
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار هذا النص القرآني جاء في بدايات النصف الثاني من سورة النحل, وهي سورة مكية, وعدد آياتها(128) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها الي تلك المجموعة من الحشرات المعروفة باسم نحل العسل, والتي نحلها الله( تعالي) القدرة علي جمع رحائق الزهور, وغبار طلوعها, وهضمه وتحويله في بطونها الي ذلك الشراب المختلف الألوان, الذي جعل الخالق( سبحانه وتعالي) فيه شفاء للناس. ويدور المحور الرئيسي لسورة النحل حول قضيتين من ركائز الدين الإسلامي الحنيف وهما: العقيدة, ومكارم الأخلاق, وفي سبيل الاستشهاد علي حجية ما دعت إليه أوردت السورة الكريمة عددا من آيات الله في الكون, تنطق بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق, وتشهد علي حتمية البعث, وعلي وحدانية الخالق( سبحانه وتعالي): بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة, ولا ولد, لأن هذه كلها من صفات المخلوقين, والخالق منزه تنزيها كاملا عن صفات خلقه. وقد صيغت هذه الإشارات الكونية في سورة النحل, كما صيغت في باقي سور القرآن الكريم ـ صياغة فائقة الدقة والشمول والكمال, مما يشهد لهذا الكتاب العظيم بأنه كلام الله الخالق, ويشهد للنبي والرسول الخاتم, الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة, حيث لم يكن لأحد من الخلق في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده, إلمام بشيء من تلك الحقائق التي لم يصل إليها علم الإنسان إلا في خلال القرنين الماضيين علي أقصي تقدير. من ركائز العقيدة في سورة النحل (1) الإيمان بأن الله( تعالي) هو خالق كل شيء, وهو رب كل شيء ومليكه, وبأنه الإله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, هو الخالق وغيره لا يخلق, وهو الرازق وسواه لا يرزق, وهو المعبود بحق ودونه لا يعبد أحد, قد تقدست أسماؤه فلا يدعي إلا بما سمي به ذاته العليا من الأسماء الحسني, وقد تنزهت صفاته, فلا يوصف إلا بما وصف به حقيقته الإلهية, ولما كانت تلك الحقيقة محجوبة عن المخلوقين, فإنهم يعجزون عن معرفة شيء من صفات خالقهم إلا بما أبلغهم به( سبحانه وتعالي), ومن ثم فإنهم عاجزون عن ضرب الأمثال لله, لأنهم لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. ومن صفات الله( تعالي), التي أخبرنا بها في سورة النحل, أن له غيب السماوات والأرض, وأن أمره نافذ, عاجل, لا يرد, وأن الدين له( سبحانه وتعالي) وحده, وأنه علي كل شيء قدير. وتخبرنا سورة النحل أن من سبل اليقين بالله( تعالي), إدراك حقيقة أن الخلق يشهد لخالقه( سبحانه وتعالي) بالربوبية والألوهية والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, كما يشهد له( سبحانه) بطلاقة القدرة في إبداع الخلق, والقدرة علي افنائه, وإعادة خلقه, ويشهد له( تعالي) بالعلم المحيط, والهيمنة الكاملة علي جميع الخلق, فكل ما في الكون خاضع لأمر الله, يسجد لجلاله طوعا أو كرها. (2) الإيمان بحقيقة الوحي, وبأن الله( سبحانه وتعالي) قد أنزل ملائكته بهدايته الربانية لخلقه, علي من اصطفي من عباده, لهداية الخلق الي معرفة الدين بركائزه الأربع الأساسية: العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات, وهي إما تقع في دائرة الغيب المطلق( كالعقيدة) أو الأوامر الإلهية الخالصة( كالعبادة), أو ضوابط السلوك( كالأخلاق والمعاملات), والتاريخ يؤكد لنا أن الإنسان كان عاجزا دوما عن أن يضع لنفسه فيها ضوابط صحيحة, ومن هنا كانت ضرورة الوحي بالدين الذي أكمله الله( سبحانه وتعالي), وأتمه في بعثة الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), ولذلك تعهد ربنا( تبارك وتعالي) بحفظ هذه الرسالة الخاتمة. (3) الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله, وبالقدر خيره وشره, وبالآخرة وما فيها من أهوال وحساب, ثم خلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا, وبأن الجنة هي مثوي المتقين, وبأن النار هي مثوي المتكبرين, الذين لا يؤمنون بالله ولا برسالاته, أو الذين أشركوا غيره في عبادته, ولم يعتبروا بعقاب الأمم العاصية من قبلهم, والإيمان كذلك بفجائية وقوع الآخرة, وبأن موعدها قد اقترب, وبأن الله( تعالي) سوف يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم في يوم القيامة, وأن خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) سوف يشهد علي أمته, وعلي جميع الأمم من يوم بعثته الشريفة الي يوم الدين, لأن الله( تعالي) قد بعثه هاديا للخلق أجمعين. (4) الإيمان بأن الله( تعالي) الذي لا تحصي نعمه, ولا تعد أفضاله, قد فضل بعض خلقه علي بعض في الرزق, وأن كل نعمة اختص بها عبدا من عباده هي من فضله, وأن من نعم الله المنعم علي عباده: الزوجية: والنسل( الذرية), والحواس كالسمع والأبصار والأفئدة, حتي يكتسب الإنسان بها المعارف, ويقوي علي حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, لأن الله( سبحانه وتعالي) يخرج المواليد من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا. (5) الإيمان بفضل كل من الجهاد والهجرة في سبيل الله, وأن أجر كل منهما عظيم في الدنيا والآخرة, وبأن الذين مكروا السيئات لا يأمنون أن يخسف الله( تعالي) بهم الأرض, أو أن يرسل عليهم العذاب من حيث لا يشعرون, وبأن من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن, فسوف يحييه الله حياة طيبة, ولسوف يجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل, وأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم, سوف يكون هو وليهم يوم القيامة, وأن الله( تعالي) قد أعد لهم عذابا أليما, وأنه( تعالي) لو يؤاخذ الناس بظلمهم, ما ترك علي ظهر الأرض من دابة, ولكن يؤخرهم الي أجل مسمي لا مهرب منه. (6) التسليم بأن الحاكمية لله( تعالي وحده), ومن ثم فإن له وحده حق التشريع, والتحليل, والتحريم, ولا يجوز ذلك لأحد من المخلوقين أبدا. 7) اليقين بأن الله( تعالي) قد وهب كل إنسان عقلا مدركا يفكر به, وارادة حرة يختار بها, وبين طرق الهداية المفضية الي الخير, وطرق الانحراف الموصلة الي الشر, وأكد أنه( تعالي) يحاسب كل فرد علي عمله, فمن وجد خيرا فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. من مكارم الأخلاق في سورة النحل: أ- صورة لاحدى شغالات النحل تجمع الرحيق وحبوب اللقاح من داخل احدى الزهرات ب - صورة فريدة لاحدى شغالات النحل تخرج بسانها لتمتص به رحيق وقد انتثرت على راسها حبيبات اللقاح 1) الدعوة الي إقامة عدل الله في الأرض, والي الوفاء بالعهد, والاحسان الي الخلق, واحترام الأيمان, والي غير ذلك من مكارم الأخلاق, وضوابط السلوك, وقواعد المعاملات بين الأفراد والجماعات, علي أن ينطلق ذلك كله من تقوي الله ورجاء رضاه, ومخافة عقابه, ومن الإيمان بضرورة ذلك لاستقامة الحياة علي الأرض. (2) الدعوة الي الإنفاق في سبيل الله, والي إيتاء ذي القربي. (3) الدعوة الي رفض الظلم بكل أشكاله وصوره, والي مقاومته بكل وسيلة مشروعة, فإن تعذر ذلك فلتكن الهجرة في سبيل الله. (4) التحذير من الوقوع في الفتن, ما ظهر منها وما بطن, وفي مقدمتها فتن الكفر بالله أو الشرك به, وما أكثرها في أيامنا الراهنة. (5) النهي القاطع عن السقوط في الفحشاء والمنكر والبغي, وعن الوقوع في أوحالها. (6) التذكير المستمر بنعم الله( تعالي) علي خلقه, والحض علي دوام شكرها, فبالشكر تدوم النعم, وتنكسر حدة الغرور في النفس الإنسانية الأمارة بالسوء كلما أغناها الله( تعالي). (7) التذكير برحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا, من النطفة الي إنشاء الجنين في خلق آخر, ثم إخراجه من بطن أمه وهو لا يعلم شيئا, ثم ما يمر فيه بعد ذلك من مراحل الطفولة والشباب, ثم الكهولة والشيخوخة, وما فيها من هرم وضعف للقوة وللذاكرة, ثم الاحتضار والموت, وما يتخلل هذه الرحلة من فترات الرخاء والنعمة, وفترات الابتلاء والشدة, ومحصلة ذلك كله عند لحظة الموت وبعدها. من الإشارات الكونية في سورة النحل (1) التأكيد علي حقيقة الخلق بأبعاده المختلفة: خلق السماوات والأرض, خلق الحياة, وخلق الإنسان. 2) الإشارة الي قدرة الله البالغة, في خلق الأنعام بمنافعها الكثيرة للإنسان, وكذلك خلق كل من الخيل والبغال والحمير, وغير ذلك من وسائل الركوب والزينة, وحمل الأثقال المعروفة في زمن الوحي, والمستجدة من بعده, والله( تعالي) قادر علي أن يخلق ما يشاء. (3) الإشارة الي دورة الماء حول الأرض, بذكر إنزاله من السماء مصدرا للشراب, ولانبات الشجر والزروع من مثل أشجار الزيتون والنخيل والأعناب, وغير ذلك من أشجار مختلف الثمرات, واعتباره آية للذين يتفكرون. (4) الاستشهاد علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الكون, بتسخير الأرض حتي تكون صالحة للعمران, ومن ذلك تكويرها, وتدويرها حول محورها حول الشمس, حتي يتبادل عليها كل من الليل والنهار, وجريها في مدارها حول الشمس حتي تتبادل الشهور والفصول والأعوام.. وتسخير كل من القمر والشمس والنجوم كي تستقيم الحياة علي الأرض. (5) الإشارة الي ظاهرة مد الظل وقبضه كنتيجة لدوران الأرض حول محورها أمام الشمس, واعتبار ذلك صورة من صور سجود كل شيء لله( تعالي) سجودا تسخيريا جبريا, يختلف عن السجود الإرادي الاختياري عند الخلق المكلفين. (6) التنبيه الي مختلف صور وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض, والي اعطاء الإنسان من القدرات الحسية ما يعينه علي تمييزها والتمتع بها وبألوانها المختلفة. (7) الإشارة الي تسخير الله( تعالي) البحر للانسان, بما فيه من أحياء ذات لحم طري يؤكل, وهياكل للحيوانات تصلح لصناعة حلي تلبس, وقدرة علي حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد, شاقة عباب مائه, وما فوق الماء من هواء. (8) وصف الجبال بأن الله( تعالي) قد ألقاها علي الأرض, وجعلها رواسي لها كي لا تميد ولا تضطرب, ووصف قمم الجبال بأنها منابع للأنهار, وعلاقة ذلك بشق الفجاج والسبل, وتكوين مختلف أشكال الأرض التي تصبح علامات يهتدي بها في وضح النهار, كما أن النجوم علامات للهداية بالليل. (9) وصف عقاب بعض الأمم السابقة, بما ينطبق بدقة بالغة علي فعل الهزات الأرضية العنيفة( الزلازل) في زماننا, من قبل أن يعرف الإنسان شيئا عن الزلازل. (10) تأكيد لمحة الإعجاز في خلق الأنعام, وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم, وخروجه من تلك الضروع لبنا خالصا سائغا للشاربين. (11) الاستشهاد بما في ثمرات كل من النخيل والأعناب من الرزق الحسن, وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات. (12) الإشارة الي الإعجاز في خلق أمة نحل العسل, والي اعطاء الخالق سبحانه وتعالي لها قدرا من الوعي والإدراك, ومنحها عددا من القدرات الفطرية التي تعينها علي تنظيم مجتمعاتها تنظيما تتوزع فيه الاختصاصات والمسئوليات والمهام بدقة فائقة, تصلح لعيش جماعي تكافلي منظم, ومن هنا كانت الإشارة الي أمة نحل العسل بالجمع في تسمية السورة سورة النحل, وفي الآيات التي جاء ذكر النحل فيها, والأمر الي الاناث( الشغالات) منها, واعطائها قدرا من الحرية في اختيار بيوتها من الجبال, ومن الشجر, ومما يعرشون, وقدرا من تحديد الأماكن والاتجاهات بدقة عالية, وقوة علي الطيران لمسافات طويلة, وبسرعات كبيرة, حتي تتمكن من تغطية أكبر مساحة ممكنة من الأرض في زمن محدد, لتجني الرحيق وحبوب اللقاح من أزهار نباتاتها, ومنحها القدرة علي تحويل ذلك في بطونها الي ذلك الشراب المختلف الألوان, والذي جعل الله( تعالي) فيه شفاء للناس من العديد من الأمراض, والخطاب في هذه السورة المباركة, جاء الي إناث النحل لأنها هي التي تقوم بذلك كله. 13) الإشارة الي خلق السلالة البشرية كلها من نفس واحدة, هي نفس أبينا آدم( عليه السلام), التي خلق الله( تعالي) منها زوجها, وبث فيهما رجالا كثيرا ونساء, وخلق منهم بنين وحفدة, في دورة مبهرة للحياة, وجعل من هؤلاء من يتوفي مبكرا, ومن يرد الي أرذل العمر, وضعف البنيان الجسدي, ومن أبرز مظاهره فقدان الذاكرة جزئيا أو كليا. (14) الإشارة الي السمع قبل البصر في هذه السورة المباركة, وفي العديد من السور القرآنية الأخري, والدراسات العلمية تؤكد خلق حاسة السمع قبل حاسة البصر في أجنة الإنسان, وأجنة غيره من المخلوقات. (15) التلميح الي الطيور وهي مسخرات في جو السماء, والتأكيد علي أنه لا يمسكهن إلا قدرة الله البالغة. (16) استخدام تعبير الحر بمفهوم كل من الحرارة والبرودة, وهو تعبير علمي صحيح لم يكن معروفا في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده. (17) تحريم أكل كل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, والبحوث العلمية تثبت أخطار ذلك كله علي صحة الإنسان. وكل قضية من هذه القضايا, تحتاج الي معالجة خاصة بها, ولهذا فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة الثانية عشرة من القائمة السابقة, التي أشارت إليها الآية رقم(69) من سورة النحل, وقبل استعراض دلالتها العلمية, لابد من الرجوع الي أقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية القرآنية الكريمة. من أقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي): ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا...*( النحل:69) * ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره:.. ثم أذن لها تعالي إذنا قدريا تسخيريا, أن تأكل من كل الثمرات, وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالي مذللة لها, أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة, ثم تعود كل واحدة منها الي بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة, بل الي بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتبني الشمع... وتقيء العسل من فيها.... * وذكر القرطبي( رحمه الله), كلاما مشابها لا داعي لتكراره. * وجاء كل من الزمخشري وأبي حيان بتفسير للسبل, بمعني الطرق التي ألهمها الله( تعالي) لشغالات النحل في عمل العسل, مع عدم انكار المعني السابق أي الطرق. * وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه: والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق... وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق.... * وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبها رحمة واسعة) ما نصه:... وفي غدوها لاقتطاف الأزاهير والثمار, ورواحها الي خلياتها من مسافات بعيدة دون أن تخطئها, وفي تنصيب أمة النحل في الخلايا ملكة عليها نافذة الحكم والسلطان, واقامة حاجب علي كل خلية يحرسها ولايمكن غير أهلها من الدخول فيها, مع صغر حجم النحلة وضعف بنيتها, ودأبها علي العمل بنظام دقيق ـ أدلة متضافرة علي كمال قدرة مبدعها, وبداعة صنع ملهمها...,( سبل ربك ذللا) مذللة, ذللها الله تعالي وسهلها لك, جمع ذلول, وهو حال من( سبل) أي الطرق التي هداها الله إليها وهي راجعة الي خلاياها وبيوتها.... * وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: ثم هداها الله ـ سبحانه ـ للأكل من كل ثمرات الشجر والنبات, وسهل لها أن تسلك لذلك طرقا هيأها لها ربها مذللة سهلة, فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس, إن في ذلك الصنع العجيب لأدلة قوية علي وجود صانع قادر حكيم, ينتفع بها قوم يستعملون عقولهم بالتأمل فيفوزون بالسعادة الدائمة. وبالهامش تعليق للخبراء علي تركيب عسل النحل. * وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبها خيرا), ما نصه:( ثم كلي من كل الثمرات), أي كلي من كل الأزهار والثمار التي تشتهينها...., فإن الله بقدرته يحيلها الي عسل( فاسلكي سبل ربك ذللا), أي ادخلي الطرق في طلب المرعي حال كونها مسخرة لك لا تضلين في الذهاب أو الإياب.... ومن الغريب حقا, أن يصل عدد من قدامي المفسرين من أمثال الزمخشري( في الكشاف), وأبو حيان( في تفسير البحر المحيط), والنسفي( في مدارك التنزيل وحقائق التأويل), والعز بن عبدالسلام في( فوائد في مشكل القرآن) الي تفسير قول الحق( تبارك وتعالي): فاسلكي سبل ربك ذللا بالطرق التي يرشح منها الغذاء الذي تأكله شغالات النحل الي فمها, فيخرج عسلا, ويأتي العلم الحديث مؤكدا أن الله( تعالي) قد زود شغالات النحل بأربع مجموعات من الغدد التي تنتقي من غذائها: العسل, والغذاء الملكي, والشمع, والخمائر, والسموم, وليس هذا لغير شغالات النحل. من الدلالات العلمية للنص القرآني الكريم أولا: في قوله( تعالي): ثم كلي من كل الثمرات...*: وواضح الأمر أن المقصود بالثمرات هنا, هي الزهور بما فيها من الخلايا التناسلية التي تنتجها النباتات المزهرة, والرحائق المصاحبة لها, وهذه الخلايا التناسلية منها الأنثوية( بويضات الزهور), والذكرية( حبوب اللقاح أو غبار الطلع), وباتحادهما تتم عملية إخصاب الزهور وانتاج الثمار المعروفة لنا في أغلب الأحوال, لأن بعض الثمار قد تنتج عن تضخم مبيض الزهرة وحده أو الكأس وحده أو غير ذلك من أجزاء الزهرة. ونستند في ذلك الي قول الحق( تبارك وتعالي) في سورة الرعد: وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين....*( الرعد:3). فزهور النباتات تحمل كلا من أعضاء التأنيث( مبيض الزهرة), وأعضاء التذكير( أسدية الزهرة التي تنتج حبوب اللقاح), وقد ينفصل الجنسان علي شجرة مؤنثة وأخري مذكرة, كما هو الحال في نخيل البلح, وقد يوجدان في نفس الزهرة الواحدة, كما هو الحال في زهرة التين. وفي الحالتين الأخيرتين تتم عملية إخصاب الزهرة بما يعرف باسم عملية التلقيح الخلطي, حيث تقوم الحشرات أو الرياح أو كلاهما بنقل حبوب اللقاح من زهرة الي بويضات زهرة أخري, وذلك لأن تلقيح بويضات الزهرة بحبوب لقاحها هي, يتسبب في إضعاف كل من ثمرتها ونسلها تماما كما يحدث في تكرار زواج الأقارب لأجيال متعاقبة. ولذلك, فإن من حكمة الله البالغة في خلقه, أننا نجد تفاوتا كبيرا في أطوال الأسدية والبويضات المجتمعة في زهرة واحدة, أو تفاوتا في أزمنة نضج كل منهما حتي يلقح بنظير من زهرة مختلفة من نبات آخر من نفس النوع, وذلك لتحسين كل من النسل والثمار, وتقوم الشغالات من إناث النحل بالدور الأكبر في عملية التلقيح الخلطي للزهور, وذلك في أثناء امتصاصها للرحائق وحملها قدرا من حبوب اللقاح. فشغالات النحل تتغذي علي كل من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح الموجودة فيها, والرحيق عبارة عن محلول مائي غني بالكربوهيدرات التي أهمها السكريات, أما حبوب اللقاح فهي غنية بكل من البروتينات, والأحماض الأمينية, والفيتامينات, والخمائر, بالإضافة الي عدد من العناصر المعدنية. ويفرز الرحيق بواسطة غدد خاصة في الزهرة, توجد عادة في قاعدة السداة( أعضاء التذكير), وهي غدد معقدة البناء تقوم علي تنظيم عمليات تركيب الرحيق وتدفقه الي داخل الزهرة باستمرار طوال فترة حياتها. وقد ألهم الله( تعالي) الشغالات, من إناث نحل العسل, اختيار فرق من المستكشفات من بينهن يغادرن الخلية للبحث عن الأزهار الحاملة للرحيق, ثم يعدن لإخبار بقية الشغالات عن أمكنة وجود تلك الزهور, وعن أنواعها, وأنواع ما تحمله من الرحيق, وتحدد لها الموقع بدقة فائقة, فتتحرك جامعات الرحيق من الشغالات الي تلك المناطق, متنقلة من زهرة الي أخري لجمع ما تستطيع جمعه من الرحيق ومن حبوب اللقاح, ومع تنقلها تحمل بعض حبوب اللقاح من زهرة الي أخري, فتعين علي إخصابها, مما يؤدي الي انتاج الثمار والبذور التي تساعد علي تكاثر النبات واستمرارية سلالاته. وتتغذي الشغالات الجانية لعسل النحل علي جزء مما تجمعه, وتغذي عددا من أفراد خليتها علي جزء آخر منه, ويمكنها الباقي من صناعة الشراب الشافي من العسل, والغذاء الملكي, والشمع والسم. ولكي تنتج الواحدة من شغالات النحل كيلو جراما واحدا من العسل الناضج, فعليها أن تجمع ما بين3 و4 كيلوجرامات من رحيق الأزهار, ويستلزم ذلك ما بين ستمائة ألف وثمانمائة ألف طلعة, والوقوف علي ما يتراوح بين الستة ملايين والثمانية ملايين زهرة. ويتفاوت مجموع أطوال المسافات التي تقطعها شغالة النحل لتحقيق ذلك, بتفاوت بعد الزهور عن الخلية, وإن كان يصل في المتوسط الي نحو النصف مليون كيلومتر, وهي مسافة تعادل أكثر من عشرة أضعاف محيط الأرض, المقدر بنحو الأربعين ألف كيلومتر(40,075 كم) عند خط الاستواء,( وهو أقصي طول لمحيط الأرض), وذلك لأن كيس العسل في الشغالة من إناث النحل, يتسع لنحو الخمسين ملليجراما من الرحيق في المتوسط, ويستغرق ملؤه بالرحيق قرابة الساعة, تزور خلالها الشغالة ما يقرب من مائة زهرة, وعادة ما تركز علي نوع معين من الزهور في كل فصل من فصول السنة, وبذلك تقطع آلاف الكيلومترات ذهابا وايابا بين الخلية وموضع الزهور الحاملة للرحيق( دكتور رضا فضيل بكر: وجوه الاعجاز في آيات النحل). وبالإضافة الي الرحيق, تجمع الشغالة حبوب اللقاح, ويبلغ متوسط ما تجمعه الشغالة الواحدة من تلك الحبوب نحو العشرين ملليجراما في كل طلعة, وهي حبوب متناهية الصغر, الواحدة منها عبارة عن خلية كاملة محاطة بغلاف داخلي هش, وغلاف خارجي مقاوم لكل من التفكك, والتعفن, والحرارة العالية, وكل من الحموضة والقلوية الشديدتين, وتجمع شغالة النحل حبوب اللقاح في سلال خاصة علي أرجلها الخلفية, وتعود الي خليتها مثقلة بما تحمله كل من الرحيق وحبوب اللقاح, لتفرغه في عيون خاصة بالخلية. وبعد ذلك, تقوم العاملات من الشغالات في داخل الخلية, بتفتيت حبوب اللقاح وخلطها بالقدر المناسب من العسل, وكبسها في عيون خاصة بخلية النحل, تتغذي عليه اليرقات الكبيرة, أما اليرقات الصغار لتتغذي علي مادة هلامية بيضاء تفرزها الشغالات تعرف باسم الهلام الملكي, ثم يستبدل ذلك بعد أيام برحيق الأزهار وحبوب اللقاح, أما اليرقات التي تعد لمنصب الملكات, فإنهن يغذين باستمرار بالهلام الملكي( المعروف باسم غذاء ملكات النحل), وقد زود الله( سبحانه وتعالي) تلك الحشرة, بحواس متطورة للبصر والشم والتذوق, وبأجهزة خاصة لتقدير المسافات والاتجاهات والأزمنة, بواسطة ما يعرف باسم الساعة الحيوية, ومن هذه الأجهزة, ثلاث عيون بسيطة وزوج من العيون المركبة التي تحتل مكانا مناسبا من رأسها, وتتكون كل عين منها من6300 عدسة صغيرة متجانسة, وهذا النظام الإبصاري المعقد والمكون من العيون المركبة والبسيطة, يعين النحلة علي الرؤية من مسافات بعيدة ومرتفعات شاهقة, حيث تستطيع شغالة النحل الطيران لمسافة تتراوح بين7 و11 كم ذهابا, ومثلها إيابا من الخلية وإليها بسرعة تصل الي60 كم/ساعة, في الذهاب ونصف ذلك في الإياب, وقد أعطي الله( سبحانه وتعالي عيون النحلة القدرة علي تمييز عدد من أطياف النور الأبيض, بالإضافة الي الأشعة فوق البنفسجية التي لا تراها عين الإنسان, وبذلك تستطيع تمييز ألوان الزهور بدقة فائقة, كما أعطاها قدرات عالية لكل من حاستي الشم والتذوق, لتمايز بين الزهور بواسطة روائحها, وروائح ما بها من الرحيق, ومن حبوب اللقاح, ولتمايز بين طعوم ما بها من سكريات, فتقبل علي المناسب منها وتتجنب غير المناسب. كذلك زود الله( تعالي) شغالات النحل بزوجين من الأجنحة الغشائية موزعين علي جانبي جسمها, وبفم قارض لاعق, وبعدد من قرون الاستشعار التي يتألف الواحد منها من(13) عقلة تحتوي العقل الست الأولي منها علي حفر صغيرة, يحف بها من أسفل أقراص سمعية مرنة يتصل كل منها بعصب حسي دقيق وبمراكز لكل من اللمس والشم, ويبلغ عدد المراكز الحسية علي قرن الاستشعار الواحد ما يصل الي نحو الألفين وأربعمائة مركز, كل هذه التجهيزات أعانت الاناث من شغالات النحل علي جمع أكبر قدر ممكن من رحيق الأزهار وطلوعها. ثانيا: في قوله( تعالي): .. فاسلكي سبل ربك ذللا....* إن في ورود هذه الجملة القرآنية الكريمة, بين الأمر الي إناث النحل من الشغالات بالأكل من كل الثمرات, وبين قول الحق( تبارك وتعالي): ... يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون*. جعلت من معاني فاسلكي سبل ربك ذللا! يتجاوز مجرد تمكن شغالات النحل من العودة الي خلاياها( دون أن تضل الطريق ـ مهما تباعدت المسافات ـ بعد أن تكون قد أكلت من كل الثمرات, وحملت من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح الخاصة بها, الي معني آخر, يشمل الطرق التي ألهمها الخالق( سبحانه وتعالي) أن تصنع عبرها ذلك الشراب الشافي مما جمعته بواسطة العديد من الخلايا الحيوية والغدد الخاصة, التي تقوم علي تجهيز هذا الشراب الشافي, عبر الطرق التي تصل بين معدة النحلة والغدد المختلفة, التي تقوم بتحويل الغذاء الي هذا الشراب الذي جعل الله( تعالي) فيه شفاء للناس( ومعدة النحلة تختلف في تركيبها عن معي سائر الحشرات), والوسائل الفطرية التي ألهم الله( تعالي) بها النحلة, والتي بواسطتها تستطيع تحويل ما جمعته من غذاء الي عسل, وشمع, وسم, وغذاء الملكات, والانزيمات التي تحول السكريات المعقدة في رحيق الأزهار, الي سكريات بسيطة. ومن السبل التي يسرها الخالق( سبحانه وتعالي) للشغالات من إناث النحل, كي يمكنها من انتاج هذا الشراب العجيب, الذي جعل فيه شفاء للناس: فم قارض, ماص, لاعق, وشفاه ملعقية, وخرطوم ماص, وجهاز هضمي مميز يختلف عنه في بقية الحشرات يبدأ بعد الفم بالبلعوم, ثم المريء الذي يمتد حتي البطن الذي ينتفخ في جزء منه, مكونا معدة العسل التي أعطاها الله( تعالي) القدرة علي إفراغ محتوياتها الي أقراص شمع الخلية عن طريق الخرطوم لتخزين العسل فيها, ثم المعدة الوسطي, التي تقوم بعملية هضم الغذاء, ثم المعي السفلي التي تنتهي بجهاز الاخراج, ويتكون العسل بإفراز عدد من الانزيمات الخاصة من الغدد اللعابية علي الرحيق لتحول ما به من السكريات الثنائية, مثل سكر القصب الي سكريات أحادية من مثل كل من سكر العنب وسكر الفواكه, التي تختلط بعدد آخر من الإنزيمات والهرمونات, التي تحول الرحيق المهضوم الي عسل النحل, وبالإضافة الي ذلك, تقوم الغدد البلعومية بإفراز غذاء ملكات النحل, وتقوم الغدد الشمعية بإفراز شمع العسل, ويتحور المبيض في شغالات النحل الي جهاز لاسع يفرز سم النحل, الذي تدافع به النحلة عن ذاتها وعن خليتها, والذي جعل الله( تعالي) فيه كذلك شفاء لعدد من الأمراض, هذا بالإضافة الي عدد من الغدد الأخري التي هيأ الله( تعالي) كلا منها لافراز مادة خاصة مما تحتاجه شغالات النحل, في القيام بنشاطاتها المختلفة, وتأدية وظائفها المتعددة. وبذلك يكون من معاني الأمر الإلهي إلي شغالات النحل: فاسلكي سبل ربك ذللا... أي فاصنعي من رحيق الأزهار وطلوعها( حبوب اللقاح) عسلا, وغذاء ملكيا, وشمعا, وخمائر( انزيمات) وسموما بالسبل التي يسرها الخالق( سبحانه وتعالي) لك, أي القنوات المختلفة في جهازك الهضمي المعقد, الذي خصك الخالق القادر به, والذي يمر به غذاؤك الذي جمعتيه من كل الثمرات فتتغذين علي جزء منه, وتخرجينه علي هيئة فضلات, وتحولين أغلبه الي هذا الشراب المختلف الألوان الذي أعطاك الله( تعالي) الإلهام والقدرة علي إعادة اخراجه من بطنك الي فمك فتصبينه في خليتك شرابا جعل الله( تعالي) فيه شفاء للناس, ولذلك جاءت لفظة سبل جمعا منكرا, ونسبت الي رب النحل تعظيما لشأنها, ولشأن الدور الذي وهبها الله( تعالي) القدرة علي القيام به لإخراج هذا الشراب, وإشارة الي ما في ذلك من إبداع الله في الخلق, وروعة تقديره الذي خص به إناث النحل من الشغالات دون غيرها من الحشرات. وهذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده, وجمعها في هذا النص القرآني المعجز بقول الحق( تبارك وتعالي): ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا...( النحل:69). لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد بالنبوة وبالرسالة للنبي الخاتم الذي تلقاه, فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين, والحمد لله رب العالمين.
__________________
[gdwl][/gdwl]
|
أدوات الموضوع | |
|
|